حينما تشعر أن جسدك لم يعد بإمكانه أن يطاوعك، أو يلاغيك، يعني أنت في موقع زمني وصحي محرج، لا تتردد بالاعتراف، ولا تنتظر المحال، تصالح مع الفكرة، وواجهها قبل أن تواجهك بضربات لا تعرف من أين ستأتيك…
حالنا مع أجسادنا كحالنا مع الطعام، نأكل ما نحب دون معرفة ما يغذينا، ونعتقد بأن العمر محوره، وفي الحقيقة قد تشعر بشيخوخته وأنت في ربيع العمر، لذلك التصالح مع الروح والنفس والنفسية وطبيعة الحياة عوامل تعصف بالهيكل، وتحدد الحالة…وهذا حالي مع جسدي هيكلي الذي أعطاني إشارات قبل السقوط…أصبح بعيداً عني، وأصبحت اتعامل معه كرفع عتب رغم ألاوجاع!
خيم الليل داخل جسدي، لم يعد يهتم لساكنه، حاولت محاصرة كل ثقوب الخارج، المواد المعقمة في كل زاويا حواراتنا، وبدل الكمامة استخدمت أكثر من واحدة…قررت المجابهة، الحذر، والحيطة المجنونة، وعدم الاختلاط او الانخراط مع الناس إلا نادراً!
أصبحت حياتنا منشغلة بإنتظار اقتحام الكورونا لنا، كأننا ننتظرها خلف الباب والنافذة معتقدين أننا منافسين جراء ما قمنا به من استعدادات وقائية، والحقيقة كانت عكس ما توقعنا، كانت صافعة!
نحن أمة تتعامل مع كل جديد بالشك وبالاستخفاف، وبالرفض، نأخذ الكلام بسخرية علنية، ونحن في داخلنا كوكبة من سواد الخوف، نحاول محاورة ذواتنا، وفجأة نختبئ كما لو كنا نعيش التوحد!
إنه الجنون الذي يوزع على الناس أكثر من الخبز الذي ارتفع سعره في بلد الادعاء، لم يعد مرض الكورونا حالة من الخوف بل هو الخوف، والكل يتحدث عنه كما لو كان رفيقاً!
تنتظر نهاية الكلام فلا نهاية في حوارات العرب، كلام يحلو له الكلام، والجميع يفهم بأن القضية حالة مرضية!
بدأت أشعر بأوجاع مؤلمة وغير محتملة في الرأس، وبسرعة بدأ صوتي بالانخفاض، وبالاختفاء، كانت البحة التي غزته جميلة جداً لو لم ترافقه مع أوجاع أطراف الجسد والرأس، وعدم الشم!
أمواج من البرد تحاصرني، لم أعد اعرف دفء الشمس، وفجأة وقعت أرضاً…لملمت اشلائي التي تناثرت بقربي، اتصلت بدكتور صديق أخبرني أنه الرشح يا عزيزي!
اتصلت بصديقة عزيزة في سويسرا حسمت أن الموضوع “كورونا”، وطالبت بأن اسارع بالذهاب إلى الطبيب، وكنت قد أمنت أدوية الكورونا في صيدلية منزلي قبل المرض، وبالفعل قررت العلاج!
وكالعادة، الأصدقاء كثر، وما أن يسمعون انخفاض بريق صوتي، وغياب لمعان روحي يشخصون المرض، وهات يا علاجات!
هذا يتصل بحب ليفرض عليك مداواته العشبية الخاصة، وذاك يقدم معلوماته المؤكدة، وايضاً من يفقه بكل تفاصيل المرض، والجميع لديهم العلاج باللسان الخبير العليم والفهيم مع ان احدهم لم يقم بالتجربة مع المرض المعاصر، وكل السوالف لا تزال خارج “الكورونا”، بل مرض “الكورونا” يشبه الرشح “الأنفلونزا” وستزول، وبالحقيقة أنا لست مصاباً بالرشح!
اربعة أيام وأنا أقاوم دون جدوى، لم اعد احتمل أوجاعي، ورأسي أصبح خارج مكانه، وجسدي سافر عني إلى مجهول ضبابي، ولون بشرتي ذهب إلى اللون النيلي القاتم، لم أعد أميز الزمن، ولا اكترث للنهار، فقط أخاف الليل، هذا الأسود يجلب لي التعب، يذبحني من ألامي، يدخلني إلى أحلام غريبة، وفيها صور مخيفة! أصبحت اكره الليل وأنا من كان يعشقه، يسامره، يبحث عنه، كل من هو جلاد دخل جسدي، وكل القساوة تتعامل معي بحقد لا أعرف سببه، وكل الوجوه تحاصرني، وجوه اعرفها ولا تبتسم، ووجوه ماتت من سنوات ولا تبتسم، ووجوه كل القباحة فيها ولا اعرفها ولا تبتسم، من أين جاءت كل هذه الوجوه الكئيبة، وما هذا الليل الجبار المفروض فرضاً على ضعفي؟!
الجيران شعروا بألامي، واهلي اصابتهم حالة من قلق الخوف والدهشة، وأنا الأكثر عملاً على أناقة الوقاية، والالتزام بضوابط المكافحة!
قُرر عني بأخذي إلى المستشفى، جاءت إسعاف “الهيئة الصحية الاسلامية”، شباب من رحم الرحمة، يشعرونك أن الدنيا بألف خير، يجاروك بالكلام القليل، ويحددون معاني كل جواب…حسموا أن الكورونا هي المرض، واخذوني إلى المستشفى!
لا مكان في كل المستشفيات التي قرروا التواصل معها، واخيراً إلى مستشفى الرئيس ” نبيه بري الحكومي”، وصلنا وانا منهكاً، لا مكان في الطوارئ، ولا غرف تنتظر المرضى، قرروا معالجتي في سيارة الاسعاف، وحينها لم اعرف ما يحدث في الخارج، شعرت أنني أدخل جسدي، واتجول بصعوبة إلى حين النهوض المبالغ…صرخت أين انا؟ كان الجواب في سيارة الاسعاف منذ أكثر من ست ساعات!
قرر الطبيب أن يعاودوا أخذي إلى المنزل، وحسم أمري بأن “الكورونا” هي علتي، وأكد لهم فحصي السريري وحالتي، وللتأكد غداً تطلع نتيجة فحص “الكورونا”!
عدت وأنا في إسعاف الرحمة إلى المنزل، الفجر قد لاح، أحمد الرحمن لن أشاهد الأحلام، لكن أوجاعي مخيفة، كل اطراف جسدي، وكل ما في كياني يصرخ مذبوحاً، وفجأة أخذت اتقيأ مع أن معدتي خاوية منذ بداية المجابهة، وما أن انتهيت من طرد الماء الأزرق من معدتي حتى غرقت في نوم عميق!
المرض الحالي هو اعلان موت اولي على صفحات السوشال ميديا، استعداداً للتفكير ملياً وبجدية بالموت الانتقالي، حينها تكتشف كل الأمور من حولك لا قيمة لها، كل الأصوات تضايقك، رنين الهاتف يسبب حالة من الكأبة، والسؤال عبارة عن خنجر، وترغب بأن تزداد خلوتك مع حالك ومع وحدتك، ووحدتك تتفرع منها وحدات، الزمن يتداخل مع الوقت، والوقت في زحمة الوجع يصبح أكثر تلاشياً، والليل والنهار تصالحا على تعبك المنهك، وربما قتلك!
في لحظات الوجع يصبح الوقت مجرد أرقاماً لعجوز تنتظر الموت، والموت يصبح مطلباً من أجل الراحة الجسدية، والراحة تسجن بالصمت، وهذا الصمت هو لاهوت الضجيج الذي يسكن مريض “الكورونا”!
أصبح جسدي نعشاً من دون الضلوع، وضلوع جسدي حاويات تتناثر بعشوائية الأوجاع…هنا أدركت أنني لا أشعر بالألم فكل كلي هو أوجاع، الألم كذبة نكتبها، هو حالة من سراب، والوجع هو بصمة، وهوية تؤكد أنني على مشارف نهاية قيدي بالحياة، أقف في زاوية الوادي العميق انتظر من يقذف بجسدي حتى تتهاوى مكنونات ما تبقى مني!
ظهراً كما قيل لي عادت سيارة الاسعاف مجدداً، أخذتني إلى ذات المشفى، لقد أمنوا لي غرفة خاصة في الطوارئ، شعرت بفوضى عارمة، وأصوات من هنا وهناك، وشجارات بين المرضى والممرضين، وصراخ أطباء لا مبررات لصراخهم!
زارني شاب مبتسماً، خاطبني باسمي، وبأنه يتابع كل ما اكتب، وهو معجب بحضوري الأدبي والإعلامي خاصة برنامجي من على شاشة تلفزيون لبنان، هنا أصبت براحة مؤقته، ولكنه عاد وقال بحسم:” استاذ جهاد حتى نبدأ بعلاجك يجب أن تؤمن هذا المبلغ، فما ردك؟”…بسرعة وافقت، وصرخت:” أنا اموت، وانتم تفكرون بالمال…حينما تقف حياتك على أعتاب الموت، تنكسر معاني الماديات، وتسعى لشراء حياتك بكل ما تملك”!
بعد كلامي هذا لم أعد أعرف ماذا أصابني، لم اعد أشعر بالخارج، انخرط الليل بالنهار، الزمان الخارجي توقف، التواصل بيني وبين الخارج توقف، تاه مع الأوجاع، قيل لي فيما بعد إنها لحظات غيبوبة، ولكن أنا أصبحت في داخلي…
لقد دخلت جسدي متهاوياً، مساحات شاسعة مع سقف اطالهُ بيدي، جسدي عبارة عن سهول هنا وهناك، سهول مترابطة من خلال بعض الهضاب الحمراء…
تتزايد النوافذ كلما نظرت في أماكن جسدي، وأنا أتمسك بنافذة من غير حائط تطل على شرفة الظلام، شرفة يزداد ظلامها حتى السواد العميق، وهذا السواد يلاحقني، اشعر بوجوده خلفي، احاول الهروب فأجد كلي يقف على نافذة من جحيم…هذا الجحيم إما قاتلي، وإما منفذي، ولكنني، ومن دون أن أشعر وجدت نفسي ادور مع دوامة بحر تنزلني إلى أسفل الأسفل، وبقعة ضوء تصغر وأنا الاحقها في دوامة، والدوار يسحبني إلى الأسفل!
صراعي حدد حرباً في داخل جسدي، تجولت في كل أماكني، كنت في حالة حرب قاسية وجاهزة، اتلقى ضربات من كل صوب، هجوم من شكل أسود معين يتألف من خمسة أطراف يشبه نجمة البحر، الطرف الأول لديه رأسه الذي يحتوي على شريط أبيض كالعين بشكل مستطيل، وباقي الأطراف سوداء من دون رأس، كانه “الكورونا”!
هو كيس مخاطي اسود اللون ومطاطي يقف أمامي كنجمة البحر، يحاول تلبسي، يقتحمني، يفرض حضوره في لحظاتي وكلما الاحقه بنظراتي يختفي، يهرول إلى عتمة تفرض الخيبة ويضربني!
اقتحمني هذا الشكل، أو اقتحمتني نجمة البحر الخبيثة…الشكل هو الآن يطاردني، يضربني بحقد وقساوة وأنا اصرخ من الداخل، كأنني دخلت أوجاعي، ويعاود هذا الشكل الحاقد غزوي، ويطلق سمومه، ويحدد ضرباته، وأنا أصبحت صغيراً، وضعيفاً، وحالة ورقية يلوح بي الهواء بسهولة، ولم اعد اتحكم بأي لحظة! وفجأة انبثق النور الأبيض من ثقب إبرة بعيدة جداً جداً عني، مسافة بعيدة في نهاية جسدي، تلمست إنها أطلت من قدمي، وصل النور إلى كل داخلي، اقترب مني وإذا بوالدتي حزينة، لا تبتسم على عكس عادتها!
تجولت والدتي في كلي، اقتربت مني دامعة، شعرت بولادتي من جديد، وبأنني محمولاً بين ذراعيها، سقطت من عينها دمعة دخلت فمي، ارتويت، وحركت رأسي، وقالت لي:” الله أرسلني إليك، والله أعطاني هذه النقطة السوداء كي أحارب عنك هذا الوباء”، وبدأت والدتي العمل بعد أن تركتني في زاوية داخل جسدي كأنه القفص الصدري!
وأخذت أمي تضرب الشكل الذي اقتحمني وتلبسني، كنت أشاهد أمي لا تهدأ، تأخذ النقطة السوداء، وتضرب بها الشكل ذات الاطراف الخمسة، تسحبه من داخلي، وتعاود ضربه أكثر من مرة بالنقطة السوداء، يصرخ، ويهرول متألماً كالجرو الخائف إلى الزاوية، تعاود أمي ضربه حتى يصبح ماء وبخاراً من ثلج، ومن ثم تعاود أمي اقتحامي مسرعة لتضرب بنقطتها ذاك الشكل، وما اكثره استطاع أن يتوزع داخل جسدي، ويحتل كلي…
استمرت والدتي على فعل ذلك كلما لاح ليل ما تبقى من حياتي، وفجأة اختفت من جسدي، شاهدتها تتنهد، وتنظر لي بصلابة مع عين دامعة، وتخرج من جسدي، تخرج من ثقب نور أخر اطل من قدمي… صرختُ أنا بصوت وصل السماء، وأدركت أنني في المشفى، ومن حولي أطباء وممرضين، والمصل بيدي :” أنا ارتجف من البرد…اريد التدفئة”!
سمعت الطبيب يقول:” لا تتركوه، وأكثروا من الحديث معه، ولا تفتحوا جهاز تلفونه، إنه يسبب له الإزعاج، كونوا لطفاء…”!
علمت أن الفجر قد عاود بالتلويح لي، أكثر من 12 ساعة وأنا أعالج داخل تلك الغرفة وامي في داخلي تقوم بمعالجتي، أريد أن أنام منذ مدة طويلة لم اعرف النوم، لم أعد احتمل البرد والمكان…
جاء احد الممرضين يطلب دفع فاتورة علاجي، لم اكترث للمال، ودفعت مبلغاً لا بأس به.
شباب الرحمن في “الهيئة الصحية الاسلامية” في انتظاري خارجاً، وعلمت انه لم يبتعد أحدهم عني وأنا في ذاك الوضع، ما الطف معاملتهم، وما أصدق مشاعرهم، وما أشرف حضورهم، وحينما وضعت مبلغاً في محرمة بيضاء كهدية شكر كان الغضب سيد التصرف، والانزعاج واضحاً، وعبروا بكلام فيه من التهذيب ما جعلني أصغر أمامهم!
هناك لم يضعوا يدهم كي يعالجوني قبل الموافقة على دفع المال، وهنا صبروا على حالي، انتظروني وتحملوني دون أي أجر سوى رحمة من الله!
عدت إلى فراشي، ونمت أكثر من 12 ساعة، وبعدها بدأت أشعر بالتحسن، ولكن ليلي هو الإرهاق والخوف والتعب الحاقد، وفجأة شاهدت حلماً يصور أن نجمة البحر أصبحت ضعيفة الحركة، وبأنها ستخرج من قدمي اليسرى ومن قدمي اليمنى، وصرخت من ألم بارد أصاب كعب قدماي…وضعت يدي على كعب قدمي اليمنى لأجده كتلة من الثلج، وكذلك كعب قدمي اليسرى، سارعت واشعلت ” دفاية الغاز” لأشعر بالأمان، ومن ثم النوم العميق!
بعد خمسة أيام أجريت فحص “الكورونا”، نظر الطبيب لي وقال :”خلاص بح “كورونا”…صحيح فقدت أكثر من 15 كيلغ من وزنك، ولكنك الان في أفضل الحالات، وعليك بعد مرض “الكورونا” أن تتحمل عوارض سببها منها ضيق النفس، عدم التركيز، اللهته الدائمة، وفقدان تذكر بعض الأمور فلا تخاف، ولا تقلق”!
لقد أعانني الله، ومحبة الأصدقاء، وانتصرت على “الكورونا”، مرض “الكورونا” ليس مرضاً عادياً، ولا رشحاً، بل اقتحامات تسعى إلى حرب قاتلة، والمشكلة التي سيواجهها المنتصر على مرض العصر، مرض صناعة البشر أنه لديك الخوف من كيفية استكمال حياتك ما بعد إصابتك بالكورونا، وهذا يتطلب حرباً من نوع آخر، أهمها الثقة بالنفس، وبأنك قررت المواجة والعودة إلى ذاتك…
Leave a Reply