تقوم رواية ” سجينة بين قضبان الزمن ” للأديبة والروائية زينة جرادي على ركائز ثلاث،أعطت في كلّ منها إبداعية مكّنتها من إيصال الفكرة التي بَنَت عليها موضوعها ، فأجادت في بنائها من مختلف النواحي الأدبية والسردية واللغوية وبتماسك أفكارها وتراتبيتها و بشرح الحالات الإنسانية والنفسيّة التي كان لهما شأنًا كبيرًا في سياق العمل ، فأعطتا العمل ميزة الحركة والتحرّك بعيدًا عن الجماد والأحداث المرّكبة.
وأوّل هذه الركائز، كانت في رسم الشخصيات التي تحدّثت عن نفسها في معرض الرواية، فلم تأتِ مكوّنات هذه الشخصيات من عبثٍ ولا نسجتها الكاتبة من وحي الخيال ،بل جاءت من واقع الحياة التي نعيش و نصادفها في علاقاتنا و مجتمعاتنا بشكلٍ يومي.
فالبعض منا ربما يرغب بتجنبّها أو يغض الطرف عنها لأسباب جلّها قد لا تعنيه ولا تمّسه بالشخصي، فيفضّل البقاء بعيدًا عن مشاكلها و ردود فعلها التي من شأنها أن تعكّر صفو حياته وتزدريها، والبعض الآخر منّا يعيشها حتمًا داخل عائلته وبين أقاربه وفي بيئته، فتكون بمثابة المُقّدر عليه فلا يستطع الهروب منها بل يتعايش مع ظروفها ويثمل من معاناتها ويتحمل عبء تبعاتها ووزرها مرغمًا وكارهًا .
لكن الجميع يدرك تمامًا ان هذه الشخصيات حقيقية وموجودة وأنها تتفاعل داخل المجتمع ، وأن البعض منها قد جاء وبالًا على أصحابها حيث أفقدتهم الهالة المرجوّة عند الكثيرين،. لكن هذه الشخصيات ، رغم أحاديث الناس عنها،لا تأبه لما يُثار حولها من إنتقادات وعدم رضى، لأنها تعتقد أن ما تقوم به هو عين الصواب وأن الجميع على خطأ .
وقد وفتها حقها الكاتبة حينما أظهرت لنا ( “عدنان” في الرواية الذي تزوّج القاصر” إلهام ” وسجنها في بيت ضيّق وكان يشتمها ويضربها لأتفه الأسباب ولم يكتفِ بذلك بل طردها من المنزل وحرمها من وحيدها الرضيع).
ففاضت الكاتبة بتحليل هذه الشخصيّة المنطوية وأُثبت أن نفسيتها المرهونة للمرض، تُلهمها بصوابية فعلتها فلا يستطع أي شخص في العالم أن يردعها ويثنيها عن غيّها في التكابر و عن هذا الإعتقاد المَشين والنتن ولو إجتمع من حولها مئات الأطباء النفسيين أو تمّثلت أمامها أعجوبة شفائية لخلاصها، لأن المجتمع الذكوري الذي يجول في مساحات نفسيّتها كان وما زال الطاغي على كلّ حركة وفعْلَةٍ يُقدم عليها.
كما أخذتنا الكاتبة الى شخصيّة أخرى نشاهدها في حياتنا أيضًا ، وهي شخصية مهمّشة ومستضعفة تتمثّل بـ ” إلهام ” التي رضخت للتقاليد وإستمعت الى آراء والدتها التي فرضت عليها بعد تهديدها بالضرب الزواج من هذا الوحش البشري” عدنان” لإعتقاد الوالدة أنها تريد الإطمئان عليها ،خصوصًا وان الوالدة قد أضحت على فراش الموت.
ولعلّ الإعتقاد السائد عند الكثيرين والذي ما زال قائمًا حتى اليوم ،أن الفتاة من الواجب عليها الإقتران برجل أيًا كان ويكن، لأنه وحده الذي يصون كرامتها ويحفظها ويحميها من جور المستقبل، ولو كان هذا الرجل ظالمًا ومُقيتًا.
وقد نجد من البعض التعاطف مع هذه الشخصيّة ونجده يقف الى مناصرتها ويهبّ للدفاع عنها، غير أن كلّ هذا الدفاع يبقى باردًا و فاترًا لأن ما يصيب البعض من هذه الحالات لا يدخل في صميم المشكلة الذاتية والخاصة لهذا البعض الآخر المنتفض.
وقد توفّقت الروائية ” زينة جرادي” بتحليل النفسيات وأفعالها، ورسمت الخيوط الدقيقة بحذافيرها، وأعطتها حريّة الفعل لتفعيل أحداثها وذلك من خلال تحليلاتها الشخصيّة وما تمتلكه من خبرة واعية وعين نافذة، فقد سَلْسَلت الاحداث ومترتباتها بطريقة سلسة ، بعيدة عن التعقيد وعن الخوارق والإستعانات الماورائية، فكانت واقعية بإمتياز وتعرف أن تصيب هدفها من خلال تسليط الضوء على كل حادثة.
كما عرفت الروائية أن تدخل الى عمق الشخصيات المتبّقية وان تلعب على التناقضات فيما بينها، فجاءت مكمّلة لنضوج الرواية التي تبقى الأساس فيها ” إلهام”.
ومن البديهي أن نشاهد الكاتبة التي ربطت الأحداث في أسلوبها المشوّق ، أن تفي كل شخصيّة حقّها من خلال ما تقدّمه من تفاعلات وفكر ونوايا، وهي المُجيدة التي جمعت كل هذه التناقضات في الرواية لتأتي متطابقة الى واقع بعض الحال..
وثاني هذه الركائز، تكمن في الأسلوب المَرن والسهل الذي إعتمدته ” زينة ” ليتمكّن القارىء من فهمه بدون الحاجة الى التفسير والإستعانة بالمعاجم، وقد أشبعته بالإشارات التي ربما قد يفهمها القارىء من دون أن يقرأها حروفًا مطبوعة عبر السطور، فأتت جميعها واضحة ، تحدّد القصد وتساعد على تكملة الصورة في الذهن ، فيتماسك الموضوع وتتضح معالم الاحداث من دون التطرّق إليها كتابة.
وقد أحسنت في تصوير مسرح الحدث الذي مهّد لبداية القصة وتفاعل مع الاحداث تباعًا حتى وصل الى الحبكة المُحكمة التي تكهّن العديدون بحلّها ، غير أن مفاتيح هذا الحلّ كان مع الكاتبة التي رسمته منذ البداية لإيصال فكرتها كما تشاء.
ونشير هنا الى مقدرة الكاتبة التي إبتعدت عن الحشو والتكرار غير المُستحّب ، فعمدت الى الحوارات التي تنبض بالحياة وتعطي الرواية ظلًا وارفًا يمكن الإستئناس به.
وعلى الرغم من غزارة تعابيرها في كتاباتها الادبية وتمّلكها للغة بشكل عام ، إلا أنها إختارت ما يفيد الرواية من بالغ الكلام، فكانت في لغتها ذات حضور فائق ومميز، فأعطت النصّ حقّه والشخصيات مستواها الفكري والمعيشي.
ثالث هذه الركائز، هي الطاقة التي تمتّعت بها الكاتبة ، فكانت تتقمّص الشخصيّة بكل ما فيها من حياة ومآخذ، تنطق بمكنوناتها وتتصرّف على أساس أهوائها وتجاري الشخصيات الباقية من زاوية هذا التقمّص الوافر عندها.
فلا تغيّب تفاعلًا ولا تسمح بمرور موقف من دون إبرازه حتى ولو كان صغيرًا، وهنا تبرز إمكانيتها السردية التي تتوالف مع جسم الحدث فتأتي مكمّلة له.
وعلى هذا، فأن رواية ” سجينة بين قضبان الزمن ” تستحقّ المطالعة والإهتمام ، وتُعتبر من أبرز الروايات التي صدرت هذا العام . وليس بغريبٍ على الروائية ” زينة جرادي ” هذا الإنجاز الجميل، فهي صاحبة قلم ذهبي ، طالما عرفته وقرأته وأحببته..
Leave a Reply