كلما اشتقت إلى الغناء اللبناني من الأصوات المتواجدة بيننا في هذه الأيام أذهب وبسرعة إلى المطرب المناضل نقولا الاسطا!
لماذا “المناضل”، ولماذا “نقولا”؟
المناضل نقولا الاسطا، لكونه هو وحيد في مشواره، ومنذ انطلاق مشواره في ” ستديو الفن”، وعدم رضوخه لشروط المخرج سيمون أسمر، خرج من ذاك المولد إسماً لافتاً من غير سنداً ليناضل وحيداً مع دراسته الجامعية وفي الموسيقى!
تلك المرحلة صعبة، وأن تقوم بالانتشار الفني خارج الأسمر من المستحيلات، ولكن نقولا وهو الوحيد الذي كسر تلك القاعدة ولم يكل ويتعب، وحفر حضوره بجهد وإرهاق لا يوصف، وأصبح رقماً في بلده، عابه عدم الانتشار العربي، والسبب المحاربة التي تعرض لها!
ولماذا اسم نقولا كلما احن إلى الزمن الرائد في الغناء اللبناني، السبب، أن نقولا يمتلك الصوت اللبناني الجهوري المؤدي “صح”، مساحته في الغناء المرتفع لا يقارن مع غيره، والغناء اللبناني يتطلب مساحات في الصوت، ومخارج حروفه سليمة، ويستخدم نفسه على طريقة الكبير وديع الصافي والأسطورة صباح من خلال تدريب صوته على مواويلهما الأصعب عربياً، ومن لا يعرف غناء الموال لا يعرف الطرب واللعب بصوته!
نقولا هو بين قلة قليلة يغني الموال، وربما هو الأهم ومن بعده واحد أو اثنين، وهنا قيمة اضافية ل نقولا الاسطى المطرب اللبناني الجبلي، والإنسان الزحلاوي الجميل في روحه وتواضعه واخلاقه!
واليوم، أطل علينا بأغنية مصرية
“عديت للمية” كلمات وألحان طوني أبي كرم، وتوزيع بودي نعوم ( طوني أبي كرم الغائب يعود بثقله، الساحة ناقصة من دون أعماله، هو متميز، ويعمل باحساس لا يوصف، ولا عجب أن يغيب في زمن الساحة الفارغة واشباه الفنانين، ولا غرابة أن يعود مع فنان حقيقي مثل نقولا…طوني قيمة فنية لم نعرف قيمتها حتى الآن)…و (بودي نعوم يفقه بنقل النغمات من مكان إلى تموضعها الصحيح، جواهرجي ليس شاطراً بل مبدعاً، وهذا البودي طال غيابه، ويستحق منا أن نتفقده لجودة توزيعه واخلاقه)!
والعودة إلى “عديت للمية” نكهة جميلة كما نشرب القهوة مع الزبدة، برع في تجسيدها نقولا من خلال احساسه، لأول مرة يغني باللهجة المصرية وعلى هذه الطبقة التي تتطلب حساسية في الأداء رغم أنها السهل ومعه تصبه ممتنعة، ومع إنه يؤدي وبتفوق لإم كلثوم وعبد الوهاب، ولكن هنا تختلف التجربة، هو يغني لونه، وشخصيته، ولا يستعير من غيره، وقد سبك احساسه المرهف كما لو كان يكتب الغزل لحبيبته، ولا يريد أن يقرأ الرسالة غيرها، إنها تجربة السهل الممتنع التي تعتمد على الذكاء، وتفوق نقولا في إيصال الكلمات وما خلفها من روح هائمة في الحب!
أغنية ” عديت للمية” صفعة قاسية للغناء الحالي، والغناء الحالي لا غناء فيه بل ثرثرات لا تفيد…و”عديت للمية”هي عطر من الزمن الجميل، وحكاية أمل بأن الفن إذا حضر له الصوت المتمكن، والشعر الحساس، واللحن المسبوك بالوجدان، والتوزيع الذكي والمرهف يحدث النجاح والمواجهة، صحيح قد لا تنتشر الأغنية عربياً بسبب عصابات الفن حيث تتعمد تقديم ما ليس فناً، لكن الزمن سينصفها، وسينصف نقولا الاسطا حيث يسبح عكس التيار…!
نعم الرخص بالفن والغناء وصيصان الصوت ينتشرون كما النفايات، إلا أن حركة جادة تجمع نقولا وطوني وبودي تقول لهؤلاء:” اجلسوا وتعلموا من الفن النظيف”…
وهذه الأغنية “عديت للمية” تبقى للزمن حيث يغربل الجميع!
إنها مغامرة، ونجح فيها نقولا، وإنها المستوى الذي نبحث عنه خارج النق، وغناء نقولا باللهجة المصرية على هذا المنوال إضافة ذكية له، والأجمل جسد معاني الأغنية ببراعة وبروح حالمة دون فرض عضلاته وامكانياته الصوتية التي نعرفها جميعاً، وهنا اعتمد الذوق في النطق، والاحساس في شرح الصورة ببوح مسؤول، والاستقلالية في الاداء، والتصالح مع صوته وفنه والكلمة واللحن…شكراً نقولا…
Leave a Reply