- الدماء والدموع جعلتني أرفض الحرب إلى الأبد
- اسم المحروسة يكفي لإدخال السرور إلى قلبي
- دار الأوبرا «اختصار مصر» بفرحها وفنها
- لا يمكنني نسيان الحرب اللبنانية
- مصر ويوسف شاهين «أسعد» تجارب حياتي وأتمنى تكرارها
- الألم جعلني إنسانة أفهم حزن الآخرين
- قدمت الفن في نطاق ما سمحت به الظروف
- الإنسان خلق للحب والانطلاق لا «التقوقع بملاجئ الحرب»
- على المسرح أخرج من حدود جسدي وأصير طيرًا خرج من قفصه
- الله منحني نعمة الغناء بروحي.. والخروج من حدود جسدي على المسرح
«ميم» المحبة والمودة والمجد.. «ألف» الأمل والألم والحياة.. «جيم» الجمال والجلال والجّلد.. «دال» الدلال والدرب والدُرر.. «هاء» الهواء والهوى والهيام.. هذا اسمها «ماجدة».
أن تستمع إلى السيدة ماجدة الرومي، فهنا المتعة تكون متكاملة الأركان، ستحلق عاليًا مع كل حرف تشدو به «السِت ماجدة»، ستأخذك من تحت ذراعيك لتزرعك في إحدى الغيمات، ستغمرك الورود والبنفسج والياسيمن، ستحملك إلى مساء وردي الشرفات.. لا لشيء إلا لأنها «السِت ماجدة».
أن تقف أمام جميلة الجميلات.. الرائعة حد الكفاية، فأنت في موقف لا تحسد عليه، فما الذي يسعك قوله لو سألت على شخص تحبه حد العشق، وكيف تلبي الحروف مطالبات توصيف سنوات عشتها على صوت واحد يعبر عن فرحك وحزنك، يقطر محبة وألما في الوقت ذاته، يسحبك من أنامل قلبك ويدفعك خارج قفص الحياة، يفلت روحك ويأمرك دونما أمر، دونما صوت، بالطيران والتحليق، هل ثمة وصف يستطيع اختصار الإنسانة في المقام الأول والمطربة ماجدة الرومي ! لا أظن، لكننا سنحاول.
«الست ماجدة».. صوت يختصر الحياة، ألم وأمل، فراق وشِقاق، ميعاد ممتد مع المتعة.. الدهشة.. الفرحة.. موعد مع امرأة تستحق أن توصف بـ«سِت الدُنيا» التي تهبك – بصوتها- «كلمات ليست كالكلمات» لكنها لن تبنِ لك قصرًا من وهم.. هي الصوت الذي يُخلصك من روتين الأيام الممل، يزيح أوراق المسؤوليات والخلافات والخيبات عن روحك.. تمنحك جناحين يصلحان للطيران.. التحليق.. وقبل هذا وذلك.. تمنحك رصيدًا لا ينضب من «الحلم».
صوت «الست ماجدة» يعيدك إلى إنسانيتك دون أن تشعر، وتجعلك أكثر ولهًا واستعدادا للوقوع في تجربة الفرح والحب، والحزن في بعض الأوقات.. تسحب قرارك المتردد بـ «اعتزال الغرام».
«السِت ماجدة» على امتداد مسيرتها التي انطلقت منذ عام ١٩٧٥ وامتدت حتى وقتنا الحالي لتشكل ٤٣ عاما من حب وفرح ووجع ودموع الشعب العربي بأكمله، لذا لا عجب في أن نقول إنها من الأصوات النادرة التي حاولت مسح الدمع عن قلوبنا، وترتيب فوضى أسئلة نفوسنا، وكبح أوجاع المخاض من الحروب التي لا تسفر إلا عن حروب جديدة.
١٥ عاما قضتها ماجدة بعيدًا عن دار الأوبرا المصرية، حيث كانت آخر حفلاتها على المسرح الكبير عام ٢٠٠٣، ورغم عدم وجود سبب بعينه لهذا الابتعاد سوى ظروف قدرية لا دخل لإنسان بها، إلا أن الإعلان عن إحيائها لحفل ختام مهرجان الموسيقى العربية بدورته السابعة والعشرين، كان له شوقه وفرحه الخاص على قلوب محبيها.
إيقاع كلمة مصر له وقعه الخاص وموسيقاه المدهشة الحالمة على قلب «ماجدة» دون سواه.. فهنا بدأت مرحلة جديدة في حياتها الفنية على يد المخرج العالمي يوسف شاهين في فيلم «عودة الابن الضال»، وكانت تتمنى العودة لتكرار تجربتها السينمائية، إلا أن رصاصات الحرب نفذت إلى عمق ظروفها، وكبلت أمنياتها.. غير أن صوتها ظل عاليا يصدح بما يحمله قلبها من فرح خالطه الألم والوجع.. هي ماجدة الرومي وفقط، وهيبة الاسم وحدها تكفي.
في تلك العودة والحدث المميز التقينا «السِت ماجدة» وقلبها المضيء بالحب، على هامش المهرجان في دار الأوبرا، ليدور الحوار على النحو التالي:
قالها محمود درويش ذات مرة.. إن لكل مدينة رائحة مختلفة عن الأخرى، فرغم تشابه صباحات المدن، وفنادقها وفطورها، إلا أن هناك رائحة خاصة لكل مدينة، فماذا تشعرين تجاه رائحة القاهرة ومصر، وما الاختلاف الذي تشعرين به داخل دار الأوبرا المصرية مختلفا عن مسارح العالم التي صدح صوتك فيها؟
في حقيقة الأمر.. لا شيء أبهى وأسعد من أن أستيقظ وأفتح عيوني في صباحات زياراتي إلى القاهرة، ليصبحني مشهد نهر النيل والمراكب الشراعية الصغيرة، فهو مشهد رائع تتميز به القاهرة ومصر عن الكثير من دول العالم، فهنا أشعر بتميز خاص ونكهة مختلفة لمشاعري لايمكنني وصفها، فهذه المدينة أشعر كما لو أنها مدينة العيد، ويكفي اسم «مصر» وحده الذي متى ذكر أشعر بالفرحة تتسلل إلى قلبي، ناهيك عن الشعب المصري الطيب والأصيل الذي يهوى الفرح ويعشق الموسيقى، فهو شعب «سميع للغاية» يعشق كل ماهو جميل بالعالم.. وهذا كله ينتقل إلى دار الأوبرا المصرية، فهي اختصار لمصر بكامل جمالها وهيبتها، فهي تختصر كل ما نحبه في مصر سواء إن كان موسيقى أو رقصا أو جمالا وفرحا، خاصة مع الاستقبال العاطفي الحنون الذي يلقاه الفنان داخل مسرح الأوبرا، وهي جميعها أمور تجعلني أتمنى دوام العز والفخر لهذا البلد الذي لطالما صدر الفرح والجمال للعالم أجمع، وحول آهات قلوبنا إلى ضحكات.
منذ عام 1975 حتى الآن في عام 2018.. رحلة حياة وفن طويلة امتدت لنحو 43 عاما، إذا ما أردنا الوقوف على تلك الرحلة وتحديد أهم التواريخ التي لن تتمكنين من نسيانها سواء على الصعيد الفني أو الشخصي.. خذينا معك في رحلة نقف فيها على تلك التواريخ وأحداثها.
برقة تتنهد.. ثم تقول:
أعتقد أنه مشوار غريب بالحياة، حدثت به كثير من الأشياء التي يصعب اجتماعها في حياة واحدة لإنسانة عاشت حياة الفن وحياة الحرب في لبنان، والحرب من الذكريات والمآسي الأليمة التي لايمكنني نسيانها على الإطلاق، حيث طبعت في نفسي ألما وذكريات لأشخاص لم يعودوا على قيد الحياة، ودمارا هبط علينا وعلى البلاد، وبالطبع أدعو من قلبي أن يُبعد تلك المأساة عن جميع البلدان والشعوب، خاصة بلادي العربية.
هي.. رحلة مطبوعة بالفن بالتأكيد، فمن الأشياء أيضًا التي لا يمكنني نسيانها «مصر» في بداية مشواري الفني وشبابي، والمخرج العالمي يوسف شاهين وتجربة فيلم «عودة الابن الضال» مع طاقم العمل الرائع الذين أتذكرهم جميعًا بكل حب وفرح، وبالطبع تمنيت من كل قلبي أن تتكرر التجربة، إلا أن ظروفي الشخصية في ظل الحرب لم تسمح بتكرارها، حيث كنا نعيش في حالة «قوقعة بالملاجئ» في هذه الفترة، ولكن على الرغم من الألم والمآسي التي ألمت بنا وبي آنذاك، إلا أنها تجربة أضافت بُعدا آخر في المشاعر الإنسانية الجياشة، فأصبحت أفهم الألم والحزن عند الآخرين بشكل أفضل، وصرت أتمنى من قلبي أن يبتعد شبح الحرب عن كل شعب وكل دولة، فالإنسان خلق للعطاء والحب وللغناء والموسيقى والرق والفرح بشكل عام، ولم يخلق أبدًا ليتقوقع بالملاجئ خلال الحروب.
وأقول دائمًا إني استطعت تقديم فني في نطاق ما سمحت به الظروف القدرية، ورغم من أن الحرب أضاعت الكثير من الفرص، إلا أنني أيضًا استفدت من التجربة، وسعيدة بكل الأحداث التي مرت في حياتي، وأشكر ربي على ما استطعت تحقيقه، وأنه على الرغم من عنف الحرب، إلا أننا مازلنا على قيد الحياة واستطعنا الغناء وإيجاد الفرح والضوء بين عتمة الأيام والظروف.
على خشبة المسرح، تطوف روحك حولنا، نشعر أنكِ معنا، وفي الوقت ذاته تكونين بعالم آخر يحمل روحك محلقة منفردة.. فما ملامح هذا العالم، وإلي أين تنتقل روحك خلال الغناء، كيف تشعرين وهل تفكرين بأشياء محددة أو أشخاص بعينهم على المسرح؟
عندما أكون على المسرح، لا أحب التفكير بأي شيء أو أي شخص على الإطلاق، أحب أن أخرج من نفسي، فلا أعود أشبهني بالأساس، وأصير أكثر مقربة وشبهًا بالفرح الذي يحمله قلبي ويشبه الحلم الذي أفكر به وحياتنا الحلوة في لبنان قبل الحرب، وطموحاتي بالحياة، كما لو أنني طير أفلتيه من قفصه وقلتِ له أعطيتك جناحين لتطير بهما إلى البعيد البعيد، وهي تجربة ونعمة أشكر الله عليها طيلة الوقت، أنه سمح لي الإفلات من حدود جسدي على المسرح في كثير من المرات، فصحيح أنني لا أستطيع الجزم أن روحي تفلت من جسدي في كل المرات التي أغني بها، ولكن يحدث الأمر في كثير من الأحيان، وأتمنى أنه لطالما وهبني الله الحياة والصحة التي تسمح لي بالغناء والخروج على المسرح، أن تبقى تلك النعمة والهبة الإلهية تصاحبني لأفلت من حدود الجسد في الغناء، وأغني فقط بروحي لا بجسدي، فهناك فرق كبير جدًا بين المغنى بالروح والمغنى بالجسد، ومحظوظ من استطاع الغناء بالروح.
لولا وجود عكس المعنى لما وجد المعنى نفسه.. ليولد الفرح لابد للألم أن يكون حاضرًا في المشهد، فهل ماجدة الرومي ممتنة للألم الذي مرت به خلال حياتها، وكيف بنى ذلك الألم شخصيتك على النحو الشخصي والفني؟
الألم فرض على فرضًا بالحياة، فلم أكن صاحبة الاختيار، ولم أخترع الحرب اللبنانية على سبيل المثال، فلم أكن أتمناها على الإطلاق، وكان أقصى طموحي أن أعيش حياتي بهدوء وفرح، فلم نكن نتوقع أن يحدث ما حدث.
على المستوى الشخصي أعتقد، أن الله خلق الإنسان للفرح، وخلقه لينطلق بكل معنى الكلمة، وعلى الرغم من أن ظروفي لم تسمح بما كنت أتمنى إلا أني أشعر دائمًا أن الألم والحزن رقق نفسي وجعلني إنسانة أفضل، وأقرب إلى الله والآخرين، وجعلني أيضًا إنسانا يرفض الحرب والظلم والمس بكرامات الدول واستقلال الدول والإنسان في المطلق، وعلى الرغم من كون تلك القيم تربيت عليها جميعها في منزل عائلتي في صغري، إلا أنها تطورت خلال سنوات الحرب، لأنني رأيت من الدموع ما يسمح لي بتسميته بالبحر، ورأيت من الدم الذي يجعلني أرفض الحروب إلى الأبد، لذلك أشكر الله على الفرح الذي زرعه في قلبي، وعلى الألم الذي حسنني إنسانيًا لأحوله فيما بعد إلى صوتي وأغنياتي التي غنيتها في كثير من المواقف والمسارح حول العالم، فالألم والتجربة التي مررنا بها كانت جزءا لا يتجزأ من الأغاني والفن الذي قدمناه للناس، وكان الجمهور يتفاعل مع تلك الأغاني لأنها تشعر أنها مهداة لها وتعبر عن حالتها الإنسانية وتعكس -كما المرآة- تجربتها ووجعها الإنساني.
وبالطبع كان من المهم عكس تلك التجربة فيما قدمناه من أغنيات وفن، حتى يستذكر العالم تجربتنا وألمنا، وليتعلم آخرون من تلك التجربة ولا يحاول الخطو نحوها.
لو وضعنا بين يديك ورقة بيضاء وطلبنا إهداء كلمات بسيطة إلى مصر وأهلها.. فماذا تكتبين؟
أقول إني أحبها جدًا بكل ما تحمل الكلمة من معنى، وسأبقى على هذا الحب الكبير طالما لدى قلب ينبض، وأتمنى لها دوام العز والمجد.
الحوار منقول
Leave a Reply