الصديق/ جهاد أيوب
ما من أحد يدخل تلفزيون لبنان إلا ويقف أمام مكتب فاتشي سيروريان للتعرف، وللمناكفة، ولكرم الضيافة مع زكزكات ضاحكة!
هو مدماك غاية بالأهمية في التلفزيون، يشكل حلقة جميلة ومتعبة ومبدعة رغم الإرهاق الذي يسببه عمل “رئيس قسم الغرافيكس في تلفزيون لبنان”، يقرر في لحظة حوار من هنا وهناك أن يبدأ العمل دون أن ينذرنا، يلتفت إلى جهازه المتطور وينطلق في تصاميم أعماله، يتركنا منهمكين بالسوالف، يضع الموسيقى الخاصة، ويغرق في الاعماق، احياناُ يأخذ رأينا، وأحياناً أخر همه!
نعم فاتشي الذي كنت انطق إسمه “فِتشي” قصداً كي ابعده عن بحر عمله، يفتح “جارور” مكتبه ليصرف الألف بفكة ال ٥٠٠ أو ٢٥٠ مسهلاً طلبات الزملاء، كان مكتبه سوبر ماركت كل ما نحتاجه نجده، ومع ذلك مكتبه أكثر من نظيف، ولا يقبل أن يتوسخ فأمثاله يزينون الأمكنة بالربيع الدائم!
ابتسامته حاضرة، اصعب المشاكل يحلها بهدوء الأعصاب، وهذا جعل منه المبدع دون مناقشة، يتميز في تقديم الأفكار جاهزة، ويعطي صورة مشرقة بأن في تلفزيون الدولة والمحارب من يفقه بعمله.
هو صديق الجميع، مكتبه واحة رغم قرار عدم الدخول والكل في مكتبه، ومن لم يدخل في لحظتها يمر بقربه مشاكساً معلقاُ صارخاً ” فاتشي” دون سبب، فقط من أجل أن يقولوا له “نحن نفكر بك”.
أكثر من خسر رحيله الموجع المزعج هو التلفزيون بالتأكيد، وشاشة نظيفة لطبيعة برامجنا، وشخصية كل عمل من الناحية الفنية، ولكن، ومن دون مجاملات أكثر من خسر طيفه، حضور غذاباته، والجلوس أخر الدوام معه هو مدير البرامج الدكتور حسن شقور …الخسارة هنا كبيرة، خرجت من القلب لتعاقب الروح بمحبة طيفها الإخلاص…نعم كل أفعال فاتشي نافورة مختلفة، وما أن ينجز الافضل، وما أن يبتسم بعد الشغل هذه النافورة تصاب بالهدوء!
د. حسن كان مؤمناً بموهبة هذا الذي ذهب إلى الموت في الكذبة، عفواً ليس الأن وقت مزحاتك يا فِتشي، ولكن الموت حقيقة لا نعرف أن نفك سحرها، كيف لنا أن نطلب وضع أفكارنا بيد أمينة، وكيف بنا أن نتشاجر مع مسؤول دون الخصام والحقد لكونه طنش عملنا، وكيف للدكتور شقور أن يجلس معنا دون الابتسامة الصافية التي يسببها فاتشي، وكيف له أن يشرب القهوة، ويتشاركا الغداء وحتى العشاء من دون فاتشي، وكيف للشاشة أن ترسم من دون رسامها، وكيف لنا أن نعمل دون مشاغبات فاتشي، وكيف للمخرج جورج الحداد أن ينفذ ما يطلب منه خارج إشكالات فاتشي، وكيف لقسم المونتاج ان لا يتصلوا ب فاتشي؟!
لا تخطط حتى يكون فاتشي صديقك، هو صديقاً لك من قبل أن تعرفه، وهذا ما يشعرك به، والأجمل في شخصه حبه لأسرته، وتفانيه في مساعدة طلاب الإعلام والإخراج حينما يزورون مكتبه للإفادة، ونسيانه أي خلاف وقع وانحل، وحواراته الدينية التي يناقشها دون أن يعرفها!
تجربتي العملية والشخصية معه ممتعة، مكتبه وقلبه فتح لي، ولسانه في حوارات الاستفزاز بحضور فنان الكاريكاتير الصديق موريس مصري حيث تتناثر أفكار فاتشي في غرفة ضيقة تطير مع دخان سجائره، ولكن غرفته واسعة لم نشعر يوماً بضيقها، والغريب أنها تحتضن الجميع من أحباء، واصدقاء وأعداء!
مجرد ما اقول له الفكرة يصمت، ويبدأ بالابتعاد، ومع إنه نفذ ما طلب منه لكنه لا يسلمني ما أنجزه إلا بعد عذاب!
ورغم العذابات التي يصيبنا بها حينما ينفذ وينجز ما يخص البرنامج ونحن ننتظره مع المميز إيلي صوايا، فيصر أن يسلم إبداعاته في الوقت الذي يحدده هو، ليس حقداً بل مزاحاُ ومن طيب الصداقة، ونحن بدورنا نعصب، وندور من حول مكتبه عشرات المرات، وهو في عالم آخر، يحاول أن يشعرنا أنه لم ينجز العمل، وبالحقيقة أنجزه، وقرر المشاغبة دون كلل لينهي فعلته بابتسامة وكوباً من الماء أو الضيافة!
هذه المرة مزحات فاتشي خرجت منها مزحة صافعة، وحقيقية، تقول أن ” فِتشي مات، ولم يعد بالإمكان مشاهدته، والحديث الأرمني معه، ولم يعد من يشاعب معنا وعلينا”…كيف لنا أن نذهب إلى تلفزيون لبنان وفاتشي ليس بمكتبه نائماً ومنشغلاً وضاحكاً، ولكن الحياة ستستمر…نعم ستستمر من دون الأحباب، وداخل ذاكرة مليئة بصورهم !
Leave a Reply