يغامر الفنان المناضل سامي خياط في مسرحيته المونودرامية الجديدة ( ?! WALAW ) ، والتي تعرض على خشبة مسرح مونو، يغامر على أكثر من صعيد ورصيد !
يغامر في رصيد تجاوز ال 62 سنة من مسرح لا يشبه إلا صاحبه، مسرح فيه إشكالات كثيرة تشبه حياتنا بكل تناقضاتها، مسرح رسم بسمة خارج المألوف في فن أصبح يعتمد على الجنس والدعارة والشتائم كي يضحك الحضور بقوة التهريج المتصنع، كما لو كان اضحاك الناس أصعب من العيش في لبنان، مسرح أصبحنا نفتقد أن نقول عنه ” مسرح” ولكن مع سامي هو مسرح سامي خياط بكل الشياكة والذكاء واحترام المتلقي!
هنا… غامر سامي خياط في أن يعاود حياكة جديدة للعمل على خشبة مسرح داخل مسرح الأيام الجرداء التي نعيشها في هذه المرحلة، وقرر أن يجود من الموجود، وأن ينفض الغبار عن كل السنوات التي يحملها، وأن لا يكون شريكاً في لعبة خمول الصمت، والنوم العميق رغم الألم، فقرر أن ينزل إلى مسرحه خطيباً بصوته المرتفع خارج المجاملات، وكذبة العلاقات الاجتماعية اللبنانية، ويصرخ دون الخوف! مغامرة سامي في أن يمرسح حياتنا في مثل هذه الظروف القاحطة، والصعبة، والمحزبة، والجافة والعنصرية خارج السرب، وعلى كل الأصعدة من فقر الحال، وفقر الوطنية، وفقر الفن والمسرح وعروضه والثقافة، وانتشار الكورونا المخيفة…مغامرة سامي في “وَلوْ؟! ” تستحق الاشادة والإشارة…
حضرنا باكراً بسبب سوء الأحوال الجوية العاصفة، وإذ بالقدير سامي يستقبلنا بابتسامة جميلة، وبصوت خافت، أخبرنا أنه يشعر بوعكة صحية من البرد، وبسرعة فكرنا بكيفية صعوده المسرح! جلسنا ساعة ونصف ننتظر لحظة دخول اللعبة، وبدقائق قبيل الافتتاح كانت الصالة شبه ممتلئة حسب وصية الصحة الكورونية العامة.
وقع نظرنا على خشبة سوداء من دون ديكور، طاولة صغيرة يجمع عليها سامي بعض إكسسوارات تعنيه، وإضاءة مسطحة في زاوية الخشبة، هذه الإضاءة رافقت العرض دون فزلكات، أدركنا أننا في لعبة المسرح الفقير، يعني نحن أمام الانتباه الكلي إلى الصوت والجسد والفكرة، وإلى مغامرة صعبة جداً في هكذا حال!
دخل سامي خياط قائلاً :” شو اشتقتلكم” على أنغام أغنية الاسطورة صباح ” أهلا بهطلة أهلا” والتصفيق المرتفع غمر كيانه، وبدأ يلعب شخوصه ومفرداته كما لو كان شاباً، وليس هو من استقبلنا بصوته الخافت خارجاً منذ برهة، المسرح أنساه كله، وكله أحضر أمامنا شعلة ضاحكة، سريعة البديهة، ثرثارة لا تعرف التعب، ومحبة متدفقة رميت على خشبة فقيرة لتصل إلى الصالة بثقة واهتمام وبثراء، وهنا الصعوبة في مخاطبة جمهور منهك ومتعب داخل معيشة صعبة!
طرح سامي في ملعبه الجديد القديم كل العاب الحياة اللبنانية، تطرق إلى فتح باب الذاكرة، وقارنها بحياة اليوم، وخاض بمسؤولية وصف معيشة اللبنانيين بقراءة لا تحتاج إلى تكاذب في الوضع الاجتماعي كما حالنا دائماً، وتطرق إلى عذابات المواطن في البنك والمصارف، ووقف مطولاً أمام ما تقدمه شاشات لبنان من تناقضات الحقيقة المزورة، وقلد، وصوب، وعلم، ونصح، وفضح، وقال عن إعلامنا ما يعجز الإعلام قوله!
شاشات تأكل المواطن، وإعلام يزور حاله من خلال لعبة الدمى التي ابتكرها سامي بذكاء، وصفعه لفقر الحال في حوارات من فاجرة وخاوية من المسؤولية، وفيها كم كبير من قلة الاحترام…وهنا جمهور مسرح سامي شريكاً في النقد!
ومن ثم قدم ردات فعل طبيعية على تصرفات بعض ساسة هذا البلد المنهك من سياسييه، والجمهور أيضاً يصفق، ويشارك، ويعلق، ويضحك أكثر!
وكان سامي أكثر جرأة حينما انتقد اللبناني وبهلونياته وتذاكيه في السفر، وهنا يجب أن نقف مطولاً ونتعلم من الصفعة المنطقية، وجال في أكثر من بلد نشتاق السفر إليه، ليحسم أن من نسافر إليهم يعيشون حسب منظومة ناجحة، ونحن نكذب بحجة التذاكي!
في (?! WALAW) نجد سامي خياط صوت الناس في مرحلة مخيفة من حياتهم، وإضاءة ذكية للوضع الاجتماعي، وهنا الصعوبة في أن لا يقع المسرحي بالمخاطبة وبالمباشرة، ولكن سامي انتفض صافعاً برشاقة، وخفة دم مهضومة، وسهامه مؤلمة لن ينفك منها كل مشاهد يضحك ويتابع أوجاعه اليومية!
اضحكنا سامي بنظافة، واحرجنا كي نخرج من شرنقة ما نحن فيه وعليه، ولم يتعمد الاستسهال في زرع الابتسامة، ولم يرخص موهبته في الدخول إلى التهريج الرخيص كي نضحك على الممثل وبالقوة، ولم يفتعل النعرات الطائفية، ولا السياسية بل كان هو الوطن الشاكي، دون أن يرحل عن الوطن الذي يسكنه كما الحلم في الوطن!
سامي خياط هو سامي خياط، ومسرحه دنيا بغالبية مفرداته لا تشبه غير سامي خياط وطموحاته في مسرحه. سامي خياط أحببته أو لم تحبه هو الفنان المسرحي الكلاس، لا غبار عليه ولا على تجربته، ولا على صورته الخاصة التي أصبحت عامة.
سامي خياط اليوم في المونودرامية الجديدة ” وَلوْ؟!” هو رسالة إلى المعذبين في الوطن، ولسان الوطن في مخاطبة شعوبه، والصافع من أجل أن نبقى في وطن التناقضات كما حال مسرحنا اليوم!
سامي خياط يعود في “وَلوْ؟!” مغامراً وصافعاً ومجنوناً اعقلنا، ولم يتنازل إلى شوارعية ما وصل إليه غيره من الفاظ وقلة حياء وفقدان الذوق، لم يزرع بشاعة رغم بشاعة ما نحن فيه، ولم يكن قليل الأدب رغم ما نعيشه من قلة أدب في فنوننا وفي أيامنا ومعيشتنا وإعلامنا وحياتنا وساستنا، هو طرق الباب وأسمعنا ضجيج الجواب بما نحن عليه!
شكراً سامي على مغامرتك، وتكاد تكون الوحيدة اليوم العامل على لملمة ما تبقى لنا من ثقافة ومن ظلال المسرح!
شكراً سامي خياط، لقد اعدتنا إلى مسرحك، واعدتنا إلى أن نبدأ بالتذكير أننا هنا، ولن نسمح بتغيبنا!
Leave a Reply