انكسر عامود الشعر وتبعثرت بصمته…لقد مات الشاعر محمد علي شمس الدين…امثاله لا يعرفون الأفول، إنه شعراء في شاعر، وشاعر يختزل الشعر، يضعه في حضنه حتى يصبح كل الشعر في قصيدة إسمها محمد شمس الدين، إنه شعراء…وشعراء لا تموت…هو الشاعر محمد علي شمس الدين…
منابر لا تعرف الأفول…منبر محمد علي شمس الدين يوزع بخور القصائد على كل المنابر.
قصيدة تهز الريح، وتعشق أنامل الفراشات…هي قصيدة محمد علي شمس الدين.
نور الأم في الشعر العربي…هي لوحة كل الأمهات في أم محمد علي شمس الدين الذي وجدها في أمهات العالم، فكانت كل قصائده رسائل إلى وجه امه.
الخبر عاصف مع انك تصالحت مع الموت منذ زمن، اخبرتني لا يهزك، ولكنه هزنا نحن، ضحكت حينما سألتك عن الموت، ولكن رحيلك ابكاني المني…أنت تعرف من أنت في فكرنا، بين تراب بلدنا، ومع كل الطيور المحلقة، وصلاة أوراق الشجر وهي تسلم روحها في خريف العمر…أنت صفحات في كتاب المجد.
محمد علي شمس الدين قارورة التواضع رغم معرفة الكون بأنه هو أهم شعراء هذا العصر، مفتاح اللغة العربية التي طوعها كما يرغب، ومبسط الإلقاء والارسال في تقديم صورة شعرية نفهمها جميعاً رغم إمكانياتها اللغوية العميقة!
لم يبخل على الشعر بروحه، فأعطاه الشعر كل اسراره، ولم يجمد افكاره، فكان متحرراً، واضحاً، ومناقشاً جاهزاً، وفيلسوفاً حاضراً، والأهم من كل ذلك هو محمد علي شمس الدين الشاعر الحر، المثقف النبيل، وصاحب الصوت الحر، وسيد مواقفه الحرة، والمقاوم، والمناضل في زمن الرخيص، وشعراء البلاط، وقصيدة مدفوعة…استمر أميناً لتعب الوطن والعمر معاً، عاش في كنف الشرف والتضحية، وشرف وتضحيات الشعراء ليست كما نتصور، بل عنفوان الروح، وبزوغ الام النفس، واشراقة انتفاضة من أجل الكرامة، وحينما تختلف هذه الحقيقة يكون ذاك المتطفل مجرد ثرثرات في اللغة وليس شاعراً، ومحمد علي شمس الدين كان عمق الشعر، فيلسوف المواقف، وقضية في قصائد نضال الوجود، رفض المال والجوائز الكبرى لآن من يعطيها من المطبعين مع أعداء الله، ومغتصبي الأرض وفلسطين!
هذا موقف الشعراء الحق
هذا قرار أبناء الأرض
هذا قدر من يفك القصيدة، ويوصلها إلى الله بجرأة التكوين والحرية…
هو محمد علي شمس الدين الذي شربته مع حليب أمي، تصالحت مع قصيدته طفلاً، وصنعت منها زوادة لعمري، ورسمتها في لوحة وسطراً في حرف، تعلمت منه حياكة المواقف مع كبرياء الكلمة، وتتلمذت منه وفيه كيف أن أكون أنا، والأهم اكتشفت من خلال محمد علي شمس الدين الصداقة والنبالة والاحترام في الشعر والمواقف والحياة.
هو جميل الوجه، والمعشر، واللسان، وهو صاحب تلك العيون السحرية الناطقة، وهو ان جالسته تختزل العمر والوقت لصفاء كلامه، وهو الذي لا يشبه غيره في الأدب والفكر، وهو براكين من المعرفة والعلم والثقافة، وهو حالة خاصة ونادرة في زمن لا يشبهه، وهو شاعر ذاك الزمان الممتد من العصر الجاهلي إلى اللحظة، لم يقلد بل يُقلد، لم يسرق من قصائد غيره، بل سرقوا الكثير من صور أبيات قصائده، ولم يبوح إلا بعد دراسة وعلم ومعرفة.
ناقش، وتجول، تعب وتحمل غيرة السكاكين الغدر، وحاور كل من سبقه من فلاسفة وشعراء، ووضع النقاط على خد الفكر، لم يأخذ أفكار غيره كما هي، بل صافحها، وصافعها، حاورها وانتصر وتغلب وتصالح معها، كان من المثقفين بجدارة، وآخر فلاسفة الشعر العربي دون كلل، وملل، وتعب، وجميل…هو يبدد الكلل بنظراته الثاقبة، ويلغي الملل بلسان قصائده العامرة التي لا تعرف غير الشمس، هو يزرع فرح الفكر الذي ينشله من تعب العمر…
لحضور الشاعر محمد علي شمس الدين حكاية مرور الملوك على الأرض، مع اختلاف أن ملوك السياسة يزرعون اليباس، بينما الملك محمد على شمس الدين يزيد الاخضرار اخضراراً، يعمق المحبة في حديثه، ويفتح كل النوافذ المغلقة من صدى العمر، ويصر أن يزرع سحر الزيتون أينما حل!
حينما احتاجه الجنوب اللبناني سخر كل إمكانياته في أن يصبح هو قضية الجنوب، خدمه في الصحافة والإعلام والمنابر وفي طرقات بيروت والمدن العربية، وحينما انتصر الجنوب عاود ورفع الصوت من أجل لبنان الإنسان، دون أن ينسى القضية المحور فلسطين.
محمد علي شمس الدين ليس عابراً، بل هو من عبر من خلال الشعر إلى الوطن الأكبر، إلى وطن الضاد بما حمل، غرز فينا وعي القصيدة المحملة للموقف للقضية، وليست قصيدة مصنعة للمناسبات، وهو الذي علمنا ألف باء التنوير في الشعر بعد أن استسهل الشعر العربي في تهمة الفضائيات الغبية!
نحن حينما نرغب بالحديث عن بصمة الشعر العربي المعاصر لا بد أن نقف مطولاً أمام الإسم الأهم محمد علي شمس الدين…شاعر البصمة العربية، وبصمة الشعر العربي بكل شوائبه ومجده ونضاله وانتصاراته…هو كل القصائد، وهو كل الشعر…نعم هذه حقيقة الشاعر محمد علي شمس الدين!
لا أعرف كيف استطعت كتابة ما كتبته عن صديق افتخر به صديقاً متألقاً محباً يفوح منه عبق التاريخ، ورغم اختلاف الاعمار، كان دائماً شريكنا، وموجهنا، وناقدنا، والأب، والأخ، والعمر بكل تفاصيله.
هو كل الحياة، وكل فصول الحياة ومع كل فصل نجده قربنا، يعطينا الرأي بتهذيب، يناطح السحاب من اجلنا، ويكابر حتى لا نعلم بأوجاعه من أجل عدم اوجاعنا …
ما من مرة طلبته لخدمة إعلامية إلا وكان حاضراً جاهزاً مشرقاً…لا يعرف إقفال أبوابه، وأبوابه من ذهب أفكاره…لا يعرف التطاول رغم وضوح الصورة لديه، ويضع النقاط على الحروف بكل صدق وعنوان العنفوان…لا يعرف غير البوح في كلام ذا قيمة، ونطق الشعر بميزان الكون والتكوين…
هو شاعر الريح، وزينب، والحسين، وعيسى، والرصاص، والفراشات، وكل الأمهات…
هو شاعر المواقف والعنفوان، والطفولة، وأشجار بلادي، وغابات العشق والكبرياء…
هو شاعر الانتفاضة، والاتزان، والجمال، ولوحة تشكيلية نادرة، وكل المواسم والامسيات…
هو شاعر كبير من بلادي من عمق الجنوب اللبناني من لبنان من شجر نفاخر به اسمه محمد علي شمس الدين…كم سنفتقدك، كم سأتالم لغيابك، وكم أنا حزين لعدم تنفيذ ما اتفقنا عليه…
في موته نكون قد اسدلنا ستار من ذهب على حكاية دخلت تاريخ الثقافة العربية بجدارة الموقف والمواقف، والعلم والتميز…محمد علي شمس الدين آخر ما تبقى لنا من كرامة في الشعر والمواقف، وهو الأخير الذي وقف أمام سلطة مشاريع المال حراً كريماً شامخاً دون أن يلتفت إلى حب الشهرة وكذبة جوائز الشعراء الكبار!
Leave a Reply