بقلم // جهاد أيوب
محمد جمال…مطرب زمن التعب والصبر ووجود وطن، أقصد وجود ما يستحق لأجله من تعب، ويومها قيل الزمن الجميل…
لقب بكثير من الألقاب، وأهمها بعد أغنية ” أه يا إم حمادة”، لقب بمطرب الشباب والطرب، صحيح كان معروفاً قبل هذه الأغنية التي نقلته من ضفة إلى ضفة، ورفعته إلى صفوف المطربين الكبار، ولكن النجاح بعد الجهود المعنية يحتاج إلى ضربة حظ!
يوم قام محمد جمال (اسمه الاصلي محمد جمال الدين تفاحة) بتنفيذ وغناء ” أه يا إم حمادة” أوائل السبعينات، وبعد أنفصاله عن زوجته الاولى المطربة طروب، وكانا قد شكلا ثنائياً ناجحاً، وقدما الديو في مصر، ومصر فتحت لهما كل الشهرة وكل الأقلام والأبواب، وإلى اليوم يعتبر ديو جمال وطروب الأفضل مصرياً…يومها قامت الدنيا عليه، وكل من كان يكتب هاجمه، واعتبرت الأغنية من أعمال الشياطين، رفضت من الإذاعة اللبنانية بحجة مستواها المتدني، وذات مظاهرة في بيروت، وما أكثر مظاهرات هذه المدينة، مجموعة من الطلاب والشباب اللبناني في الساحات، وعلى البوسطات يغنون “أه يا إم حمادة”، سمعهم مدير الإذاعة، أعجب بغناء الشباب اللون الشبابي الجديد هذا، فقرر على الفوى السماح بإذاعة الأغنية حتى يكسب هؤلاء الشباب من جديد!
سأل عن صاحبها، قيل من هو، طلبه، فكان محمد جمال في ربوع دمشق يغرد في حفلاتها، بعد أن سمحت إذاعة دمشق بإذاعة الأغنية التي وصلت الشارع وانتشرت بشكل لا يصدق!
تم الاتصال ب جمال، وعاد إلى الإذاعة اللبنانية ملكاً ومصنفاً، وزاد انتشار الأغنية، “الإذاعة اللبنانية” آنذاك كانت هي مفتاح العبور والذوق والشهرة والانتشار المحترم والمقتدر!
الأغنية ليست عبيطة، ولا هي ساذجة، وفيها جملة موسيقية غاية بالروعة، وسرقت من قبل أكثر من فنان خارج العرب فغنيت في تركيا وإيران واليونان على عكس اليوم، حيث بعض من عنا يسرق من هناك كي يفتعل شغلة التلحين!
محمد جمال كان قبل الأغنية الشهرة يؤدي الطرب الأصيل، وكل من يسمعه كان يعتبره من الفنانين الجيدين، يمتلك صوتاً جميلاً فيه بحة تزيده رونقاً، هو ملتزم اخلاقياً وعائلياً وفنياً، له لونه وحضوره وكياسته، بعزف على العود ببراعة!
غنى ومثل ولحن ووزع الحانه لكثير من الاصوات، وكان يحلم بأن تغني له الكبيرة الأسطورة صباح، وتم التعاون، وغنت ” ما في نوم”، ويومها كسرت الأغنية الدنيا كما هو اخبرنا، ونظراً لعشقه لذاك اللحن، عاد وغناه بصوته في حفلاته بعد سنوات، ونظراً لأخلاقه الحميدة اتصل بالسيدة صباح طالباً الإذن رغم أن الأغنية من تلحينه…(شوفوا ذوق وأخلاق زمان من اليوم)!
عمل العديد من الأفلام في السينما المصرية، والمسلسلات اللبنانية، وربما أول عمل دراما تلفزيوني للمطربة الكبيرة وردة كان في تلفزيون لبنان مع محمد جمال ” اعتمد على ذاكرتي هنا”، وردة في حينه مغمورة، وهو قد بدأ يقطف الشهرة بعد إم حمادة لكونه أبوها!
الحرب في لبنان كعادتها كل عشر سنوات تعاود ظهورها في بلد شعوبه لا تتعلم، طالت تلك الحرب الأهلية اللبنانية، دمرت كل الثقافة والمشاريع الفكرية والفنية في لبنان السباق، نحت وجوده خارج الحرب واللعبة الطائفية، اكتفى بحفلات هنا وهناك، وربما مطاعم منطقة الأوزاعي تتذكره جيداً إلى جانب سامية كنعان وطروب وسماهر وسميرة توفيق، وأبو صياح….
انتشرت الإذاعات كالملح، وأيضاً القنوات التلفزيونيه الحزبية بمشاريعها المخيفة، والعلاقات الشللية المشبوهة، ودفع المال حتى تذاع تبث الأغنية…فقرر الهجرة إلى أميركا، وانقطعت أخباره.
بعد عودة بيروت مع اتفاق الطائف، وزعامة رفيق الحريري السياسية، وإنشاء قناة “المستقبل” عاد محمد جمال ليجرب حظه من جديد، وقد رحب به من الجميع، وبالأخص من قبل قناة “المستقبل”، غنى هنا وهناك في مطاعم متواضعة، ولم يوفق أن يعود بقوة الماضي رغم أن صوته لم يعرف الشيخوخة والترهل، وكان مخلصاً له، الشيب بدأ يتربع على الزمن، والعمر يحتاج إلى مغامرة، والعودة تتطلب دراسة والمدير والفريق والمال الوفير!
شعر جمال بأن بقاء إسمه الكبير السابق في الذاكرة أفضل من الحرب مع الجيل الجديد ومنهم جورج وسوف، ووليد توفيق، وراغب علامة، ومايز البياع، وأحمد دوغان …إضافة إلى فنان الإعلانات من غير موهبة، وهذه ظاهرة انتشرت بجنون في حينه!
إنسحب محمد جمال عائداً إلى أميركا يراقب، وحينما التقيته قال:” الزمن تغير، لبنان تغير، العرب تغيروا، والساحة الفنية صراعات هذا يأكل ذاك، وهذا الزمن ليس للصوت ولا للكلمة، وابتعادي جعل الكثير ينسوني، يعشقون اغنياتي، وتتجدد بأصوات الشباب، ولكن صاحبها مهاجر، لذلك لن اعتزل، وسأحاول…”!
اعتقد شخصياً انسحابه في مكانه، ولو قرر العودة عليه بتأمين مستلزمات العودة من مدير أعمال، وفريق إعلامي، وتقديم الجديد الناجح والملفت لا الاكتفاء بتذكيرنا بماضيه الذي نحب ونحترم.
محمد جمال هو من الشمال الغالي، وتحديداً ابن العاصمة مدينة طرابلس، استاذ في الأداء، والرأي المهذب، ولم يخاصم يشتم ويتطاول على أحد رغم إمكانياته الفنية شكلاً ومضموناً ونجاحاً، وهو قامة فنية كبيرة غنى الشعبي، والخفيف، والفصحى، والطرب بأنواعه، وله في ذاكرتنا اجمل الأعمال الغنائية التي رافقتنا في أوائل السبعينات والثمانينات منها ” نسم شرقي بلدي، وبّدي شوفَك كل يوم يا حبيبي، وما في نوم بعد اليوم، ومزّيكا يا مزّيكا، وما عندي مال أعطيكِ، وأنا قلبي اكبر ، وغيرها وغيرها من الاغاني الجميلة….”.
* وقد وافته المنية صباح اليوم الجمعة في مستشفى لوس انجلوس في ولاية كاليفورنيا الأميركية حيث هاجر إلى هناك في أوائل الثمانينات هرباً من الحروب اللبنانية المتكررة، ومن أجل تأمين المستقبل والحياة الكريمة لاسرته.
Leave a Reply