كان الشاعر الكبير نزار قباني يُلقي قصيدته في إحدى القاعات التي ضمت مهرجاناً شعرياً في بغداد العام 1962، فوقع بصره وهو يشدو بقصيدته على فتاةٍ عراقية في العشرينات، شديدة الجمال، مليحة القوام، تلاقت أبصارهما مرّاتٍ ومرّاتْ، فوقعت في قلبه، فهامَ بها. سأل عنها، فعلمَ أنّها (بلقيس الراوي)، تعيش في مدينة الأعظمية في بيتٍ أنيق، يُطلّ على نهر دِجلة، فتقدّم لخطبتها من أبيها، ولأنّ العرب لا يُزّوجون مَن تغزّل في إبنتهم، لم يوافق، فعاد نزار حزيناً خائباً إلى إسبانيا، حيثُ كان يعمل في السفارة السورية.
ظلّت صورة بلقيس تُداعب خياله ولا تغرب عن باله، لكنّه ظلَّ يتبادل معها الرسائل في غفلةٍ من الوالد. بعد سبع سنوات، عاد إلى العراق ليُشارك في المربد الشعري حيثُ ألقى قصيدة أثارت شجون الحضور، وعلموا أنه يحكي فيها قصة حب عميقة، فتعاطفَ معه الشعب العراقي بأسرِه.
نُقلت القصّة إلى الرئيس العراقي حينذاك أحمد حسن البكر، فتأثّر بالقصيدة، فبعثَ بوزير الشباب الشاعر شفيق الكمالي ووكيل وزارة الخارجية، والشاعر شاذل طاقة، ليخطباها لنزار من أبيها، عندها وافق والدها فتزوّجا العام 1969 ليعيشا أجمل أيام حياتهما…
ما إن أشرقَ العام 1981، وبعد أن استقرّ بنزار وزوجته المقام في بيروت، حيث كانت بلقيس تعمل في السفارة العراقية، حتى كان الخامس عشر من الشهر الأخير من عام 1981 ودّعها نزار لتذهب إلى عملها وتصافحا فتعانقا فتفارقا، فذهبت إلى عملها وذهب نزار إلى مكتبه بشارع الحمراء، وبعد أن احتسى قهوته سمع صوت انفجار زلزله من رأسه إلى أخمص قدميه، فنطق دون شعور، قائلاً : يا ساتر يا ربّي، وما هي إلا دقائق حتى جاءه الخبر ينعي له محبوبته التي قُتلت في العملية التي نفّذها الإرهاب ومعها 61 من الضحايا، فكتبَ فيها قصيدة رثاء لم يكتب أطول منها في حياته، ولا أجمل منها في مسيرته الشعرية.
هذه قصة الحب والإرهاب، إنّها قصة تؤكد أنه ليس للإرهاب قلب، وليس له مبدأ، وليس له إيمان. جزء صغير من قصيدة بلقيس:
شكراً لكم ..
شكراً لكم . .
فحبيبتي قُتلت .. وصار بوسعكم
أن تشربوا كأساً على قبر الشهيده
وقصيدتي اغتِيلت ..
وهل من أمـةٍ في الأرض ..
– إلا نحن – تغتال القصيدة؟
بلقيس …
كانت أجمل الملكات في تاريخ بابل
بلقيس ..
كانت أطول النخلات في أرض العراق
كانت إذا تمشي ..
ترافقها طواويسٌ ..
وتتبعها أيائل ..
بلقيس .. يا وجعي ..
و يا وجع القصيدة
حين تلمسها الأنامل
هل يا ترى .. من بعد شعرك سوف ترتفع السنابل ؟
يا نِينَوى الخضراء ..
يا غجريتي الشقراء ..
يا أمواجَ دِجلة . .
تلبس في الربيع بساقها أحلى الخلاخل ..
قتلوكِ يا بلقيس ..
أيّةُ أمةٍ عربيةٍ ..
تلك التي تغتال أصوات البلابل؟
Leave a Reply