كثيرون مَن يدّعون النقد الفنّي، ويفهمون بالفن ومعالمه، فتراهم يطلّون ينظّرون في حلقات تليفزيونية أو إذاعية، بصفة انهم من أهل الصحافة والإعلام، يدلون بدلوهم عن كلّ ما هو جميل ورديء من الأعمال، خصوصًا الدرامية، وفق آرائهم الشخصيّة التي لا تتعدى في أبعد حالاتها، فَهمهم المحدود، ونظرتهم المتهالكة لأمور يجهلون مبادئها وصوابية أصولها، فيتفوّهون بآراء بعيدة كل البُعد عن مناهج النقد العلمي الصحيح.
والأخطر من كل هذا “فهلوانات” كلامهم، حينما نكتشف أنهم لم يشاهدوا الأعمال الدرامية التي يتحدثون عنها.
وأحياناً كثيرة يتناولون في كلامهم الذي لا يرتكز على ثوابت، شخصيّة واحدة من أي عمل درامي، لم يكن على مزاجهم أو بينه وبينهم مواقف شخصيّة وربما ماديّة، ومصالح خاصة جداً، فيُعملقون القزم ويُقزّمون العملاق لغايات لا يمكن تبريرها في المنطق العلمي والسببيّ الّا لثأر قد يُحكم موقفهم، منتهزين الفرصة للظهور الإعلامي من أجل أن يفتحوا النار عليه، من دون اللجوء الى الضوابط العلمية والتبريرية الحقّة، غير آبهين بالعمل الدرامي كهيكليّة وتراتبيّة تمثيل مُنَسّقة من الألف إلى الياء، ناسفين البعد الدرامي لأي شخصية في العمل.
وقد يطلّ أغلبهم على الإعلام من خلفيّة مُسبقة، يتقاضون أجرَهم من شركات إعلامية وإنتاجية، ويبقى ظهورهم مرتهنًا لمشيئة هذه الشركات التي تريد إظهار أبطالها كنجوم وتحطيم صور نجوم آخرين لا يعملون معها، فيكون هذا المتحدّث بوقًا يُنفخ فيه لإيصال فكرة ملغومة، تتماشى مع مشاريع هذه الشركات التي تطمح لإبراز أحصنتها عند الرأي العام، فيضحى هذا البوق الذي يحمل صفة صحافي أو إعلامي وسيلة ساذجة، يُمرّر أهداف أولياء نعمته، مسوّقًا نفسه على أنه ” ناقد فنّي”، ولا يقبل بغير هذا الوصف الفضفاض!
ومن المتعارف عليه علميًأ، أن النقد الفنّي يشمل معالجة جميع الفنون، من المسرح والرقص والشعر والموسيقى والرسم والتمثيل وإلخ.. من فروع و مذاهب فنيّة وموهبيّة لها مكانتها المرموقة في حضارات الشعوب التي تطوّرت وتشعبّت مدارسها الى الآف المدارس على مرّ الأزمنة، بدءاً من الحضارة اليونانية التي كانت قائٔمة قبل ميلاد السيد المسيح الى يومنا هذا، والتي تلوّنت بإجتهادات كثيرة على يد المفكّرين وأصحاب الإختصاصى، واُضيف إليها الكثير من الروافد التصحيحية والتخصصيّة لتواكب كافة التطوّرات العصرية..
ولا يعني هذا، أن التطوّر الملحوظ الذي أُضيف يلغي منهج النقد الفنّي الأساس وتقسيماته، المبنيّة على التفرّد بكل مذهب فنّي، والذي لا يجوز جمعها على مقاس واحد بل ينبغي تفنيد كلّ فنّ منها على حدى.
ومن غير الممكن أن يُسمح لهذا الـ ” ناقد الفنّي” أن يحصر هذه الصفة بالدراما فقط، لأن شمولية الكلمة توقع به في المحظور، بل يجب عليه تحديد صفته ويعطي وجهة نظره على أساس الصفة التي يدّعيها.
ومن المستحسن أن يلبس صفة الناقد الدرامي فيما لو تناول في حديثه الدراما أو الناقد الموسيقي في حال يتناول موضوع الغناء واللحن )، بغض الطرف عن صحة وجهة نظره أو عدمها…علمًا أنه في بعض الأحيان نشاهد ناقد مليء بالثقافة، والتجربة، والمتابعات الزمنية والاجتهاد فيمكن عندها أن نعطيه حق الناقد.
ولكننا في هذا الزمن الإعلامي التعتيري نفتقد ونفتقر إلى الناقد المثقف، وربما نجد واحداً وليس أكثر
ولا يحق للبقية السائدة اليوم، أن تبني وجهة نظرها من منطلق علاقة شخصيّة، فربما مَن تمدحه يكون متسولًا للنقد لا يستحقّ المديح وربما آخر مُجيد في دوره فلا يجوز تجاهل نجاحه. فالنقد ليس حالة عاطفية بل هو (إبداع وإخلال) في الوقت عينه، و من الواجب التطرّق إليهما بطريقة علميّة بحتة.
فالناقد الحقيقي، وفي بداياته يُحدّد هويته الذي على أساسها يبني إنتقاده، فلا يستطيع أن يجمع كل هذه الفنون بـ ” سلّة ” واحدة الّا لمامًا . فالناقد الموسيقي مثلًا ،يجب عليه أن يحصر نقده بشؤون الموسيقي وسُلّمها الـ ” نوتي ” والعُرَب الصوتية والمقامات الذي من الواجب عليه أن يكون ضليعًا ومتمّرسًا بها ، كذلك الناقد المسرحي الذي يجب عليه حصر نقده بشؤون المسرح وتاريخه، وناقد الشعر كذلك يجب أن يتحدّث عن أوزان القصيدة والصور الإبداعيّة فيها… والى آخره من أنواع فنيّة يُحدّد فيها الناقد هويته النقدّية.
وعلى الرغم من تشعبّات هذه المذاهب الفنيّة والتي من شأنها أن تأخذ حيّزًا واسعًا وكبيرًا من العلم والإجتهاد،
ومع ذلك لا يمكن لهذا الناقد مهما كان على علم وافر إلا نادراً (وليس في هذا الزمن)، لا يمكن أن يدّعي الشمولية في نقده ويُسمّي نفسه “ناقدًا فنيًا”بمعنى أنه ضليع وفهيم بكلّ هذه الفنون المترامية الأطراف وإلّا سيصبح فاقدًا للمصادقية وفاشلًا في جميعها على غرار هؤلاء المنتحلي الصفة.
ومن المفروض أن تُقام ورشة تصحيح للـ ” صفة ” التي يستخدمها البعض لمآرب شخصيّة ولتصفية حسابات مهنيّة، حيث يقوم من خلالها بإعطاء وجهة نظر لا تُبنى على أسس علميّة، مُسلّحًا بكلمة أنه كاتب ومتابع لشؤون الفنّ الذي يُملى عليه في أغلبه، من مكاتب الفنانين والشركات أو أن يُبدي رأيًا شخصيًا بـ فنّان ما ، من دون أن يتطرّق بكلامه عن كامل العمل وعن نظرة المخرج والكاتب إحترامًا لعقول المتابعين وإكرامًا لعمق فَهمهم..
فللدراما أسسها وأجناسها وألوانها، وهناك بناء لها وعناصر ومقوّمات تسهم في صياغة حبكتها ، وهي متعدّدة ،فلا يجوز أن يتناولها هؤلاء من زاويتهم الخاصة ، ويبثّونها للناس كلّ حسب ” ليلاه ” ومحدودية معرفته.
ومن السخافة بمكان، ما نشاهده اليوم في أكثر المقابلات التي تُعنى بمعالجة ” الدراما “المليئة بالتخبّط الذي نجده فيها التسابق الى إنتقادها من بعض المتسلّقين على حفافي الكتابة الذين لا يتركون مناسبة الّا ويعلنون نفسهم من النقّاد الذين يفاجأوننا بملاحظاتهم الواهية التي تعبّر عن خوائهم الفكري والعلمي، ولا يغوصون بمواضيعهم الّا على حُفَر الشواطىء الموحلة، تاركين البحر الواسع الذين لا يتجرأون ولا يستطيعون الغوص به، بل يوّجهون سهامهم أو يفيضون بمديحهم على شخص واحدٍ، متجاهلين المشهدية كلّها والحبكة الموضوعة والأشخاص المساعدين والمخرج والمصوّر واللقطة بمختلف إنعكساتها.
كما علينا أن نعلم، أنه ليس كلّ مَن خطّت يده سطرًا، أصبح ناقدًا، وليس كلّ مَن راودته فكرةً أصبح من أصحاب الرأي السديد.
البقية تأتي…
Leave a Reply