غيّب الموت الموسيقار الكبير الياس الرحباني عن عمر يناهز 83 عاماً… وإن كان الموت باعتبار البعض نهاية، لكن موت الفنان الكبير ليس نهاية بحد ذاته.
إنه رحلة انتقال من عالم موجود، الى عالم ثانٍ هو عالم الخلود.
الياس الرحباني، الضلع الأخير لمثلث الرحابنة الذهبي، رحل بعد الكبيرين عاصي وأخيه منصور… كانوا ثلاثة في واحد… مع أنّ لكل منهم عالمه الخاص وميّزاته التي يتفرّد بها عن أخويه… كما كان لكل منهم إبداعاته، وفنّه، وسعة صدر خاصة به، ومملكته التي يديرها بنفسه.
عاصي ومنصور كانا متلازمين، يفهم أحدهما الآخر، مع أنّ لكل واحد منهما عبقريته الخاصة، رغم أنّ عبقرية عاصي لم يشهد تاريخ لبنان مثيلاً لها. وأتذكّر ذاك الإتصال الذي تلقيته من المرحوم منصور ذات يوم، يطلب فيه مني الإتصال بالسيدة ميادة الحناوي، ودعوتها للغداء، لأنّ عاصي يريد الاجتماع بها، ليبحث معها مشروعاً كان أعدّه. وبالفعل، جاءت ميادة، واجتمعنا حول مائدة غداء: المرحومان عاصي ومنصور وميادة الحناوي وأنا. وتمّ الاتفاق يومذاك على أن تأخذ المطربة الكبيرة، ديوان شعر للشاعر الكبير نزار قباني، تحاول من خلاله وضع ملاحظاتها حول ما تشاء من قصائد الديوان، تمهيداً للقاء ثانٍ، تُبْحث خلاله هذه الملاحظات تمهيداً لوضع مسرحية يعدّها عاصي.
ذهبت ميادة الى دمشق، ولم يتحقق الحلم، فعلى أي حال، ما كل ما يتمناه المرء يدركه… أعود الى الفنان الراحل الياس الرحباني، رحمه الله تعالى، الذي كان يتصف برحابة صدر نادرة، فكل المشاكل أمامه، حلّها ممكن، ينهيها بكلمة… بسيطة.
وفي معرض الحديث عن الرحابنة، أذكر السيدة فيروز، أيقونة الرحابنة، وسفيرة لبنان الى النجوم. فيروز الملكة… فيروز الفنانة التي من الصعب أن تحلّ محلها، مطربة حتى ولو أجادت. فهي ظاهرة من الصعب أن تتكرّر. صحيح أنّ هناك مشاكل كانت تحدث بين العبقري عاصي وزوجته المبدعة فيروز… وهذا أمر طبيعي، لكن وللتاريخ أقول: “إنّ الياس -رحمه الله- كان يُحَيّد نفسه عن هذه المشاكل، وينأى بنفسه عن التدخل في شؤون الزوجين الداخلية. وهذه السمة نقلها الياس الى غسان، لأنّ العلاقة بين غسان وزياد كانت تمتاز بالمحبة والإحترام، فكل واحد منهما يحترم خصوصيات ابن عمّه. صحيح أنّ الياس كان يُكمل أضلاع المثلث الرحابنة الذهبي، أو كما نقول بالعامية “يكمل السيبة” لكنه كان في الوقت نفسه، امبراطورية بحد ذاتها، إذ وصل عدد أغانيه وقطعه الموسيقية الى الـ5000، بالعربية والفرنسية والإنكليزية والإيطالية وغيرها من اللغات… هذا التراث المجيد، أثرى المكتبة الموسيقية العربية، وأعطاها فنّاً رائعاً خالداً…
وهل يمكن لأي فنان في وطننا العربي الكبير التوصّل الى مثل هذا التراث؟
الياس الرحباني، كان نسيجاً وحده، كان عالماً خاصاً، يتحسّس كل معزوفة، ويتذوّق كل أغنية بِحَدسٍ غريب عجيب. كان الفنانون المصريون الكبار، يحسدون لبنان على وجود مدرسة للرحابنة… سَمَتْ بالموسيقى الى أعلى درجات التطوّر والإزدهار..
عزائي في هذا اليوم، وأنا أودّع الياس، الأخ والصديق العزيز، أنه ترك لنا غسان وغدي… وأقول: إنّ الفن لن ينتهي طالما يوجد رحبانيّ واحد.
Leave a Reply