قليلة هي اللقاءات التي جمعتنا رغم طول اللقاء حينما يحصل، وكثيرة اتصالاته معي رغم أنه لا يردّ على الاتصالات الواردة إليه. يبحث عن المتصل، وبمزاجية يفعل، وبقرار حاسم يقرّر الاتصال أو عدمه. ومعي هو المبادر، وحتى البرهة لا أعرف السبب، لكنّه يوم رحيل الأسطورة صباح اتصل بي بعد ثلاث دقائق على انتهاء حلقتي في برنامج «فكّر مرتين» مع شارلي المر عبر قناة «OTV». بادر إلى القول قبل أيّ سلام: «جهاد، أنت الوحيد بين كل الصحافيين الذي يؤتمن على الأسرار، وتعرف تمرير ما وجب تمريره بسحر المجانين… ولك صباح شغلة كبيرة، لو كان في زمانها فضائيات كانوا ناموا تحت أقدامها، وجعلوا من أخبارها مكسباً لزيادة أموالهم… ولك يا جهاد بكرا أنا عندكم صباحاً للعزاء…»!
أبو مجد مكانك محفوظ، أخبرني عن زيجاته، علاقاته، عن رأيه بكل أولاده، عن أسرار سياسية وحزبية، عن مواقفه السياسية والاجتماعية، عن رأيه بكل الفنانين الذكور والنساء ـ ما كان يعجبه أحد ـ كان يعطي رأيه السلبي قبل الايجابي بالجميع، وبالكبار قبل الصغار وحتى بصيصان الغناء. وكان لسانه ناراً وحاراً وفيه مفردات لا تكتب أو تقال. ومن المستحيل أن أبوح بأسرار كبارنا، وهم لم يقولوها علناً في حياتهم. ما فائدة الفضيحة لو كانت، وما قيمة كشفنا أسراراً تزعج الأحياء، فدورنا المحافظة على تميّز فنونهم، لا فضح خصوصياتهم، لأن زمانهم بياض تعبهم، وأريج جمال عطاءاتهم، وحنين التأسيس، وعنفوان الاستمرارية.
هكذا أفهم دوري، وأحافظ على صداقاتي حتى بعد رحيل كواكبنا الغنية بموهبة فيها قبس جنونهم، ونجومية تميّزهم، واختلافات حياتهم، وتعدّد هفواتهم.
ملحم بركات ليس فناناً عادياً، هو ليس من المؤسّسين في الفنّ العربي، وتحديداً في الغناء اللبناني. لكنه من الكبار، ومن المحافظين على ما أسّسه الرعيل الأول، كان أميناً على أن تكون له بصمة في الأغنية اللبنانية كي تكون عربية ومنافسة لحناً وصوتاً وأداء. وكان مُصرّاً بثقة على أن يغامر ويختلف، ويختار ما يشبهه، وهذا ما جعله متفرّداً ومنفرداً في غالبية ما يقدّم وما قدّمه وما يقوله وما يغنّيه وما يلحنه، وما ينتقد، وما يشتم، وكيف أن يعبّر بجنونه الفنّي عن جنونه.
من الظلم أن نقارن ملحم بركات بأبناء جيله، نظلمه لكونه يختلف عنهم شكلاً ومضموناً وتصرّفاً واستمرارية. وأيضاً نظلمهم لأنهم يمتلكون مواهب كبيرة، وأصواتاً خطيرة، وحضوراً فارضاً فيه بصمة تليق بهم. نعم، جيل ملحم بركات جيل التعب والمغامرة والبحث عن مساحة في حضرة العمالقة خاصة الجيل الذي أسّس بوجود صباح، وديع الصافي، الأخوين رحباني، فيلمون وهبي، توفيق الباشا، حليم الرومي، نور الهدى، سعاد محمد، نجاح سلام، ثمّ فيروز، نصري شمس الدين، جوزف عازار، وسميرة توفيق، والإذاعة اليتيمة آنذاك «إذاعة لبنان الرسمية»، وقناة «11» في الحازمية ، وقناة «7» في تلة الخياط تحت مسمّى تلفزيون لبنان الرسمي، ومهرجان بعلبك.
نذكر من جيل ملحم بركات ورفاقه، كل من عصام رجي الذي سبقه في الشهرة بسنوات، وإيلي شويري، ومحمد جمال، وسمير يزبك، وسهام شماس، وعفيف شيا، وسامية كنعان، ومجدلى، وفدوى عبيد، مروان محفوظ… لا خلاف حول أصواتهم، ولا اختلاف حول اختلافهم في اللون الفنّي والنوع الغنائي، وأيضاً لا اختلاف حول من استمرّ، ومن غابت عنه الشمس، ومن ظلّ ملاحقاً من الإعلام، ومن تناساه الفنّ والإعلام والنجومية.
ملحم بركات يختلف عن الجميع، عرف كيفية زكزكة الإعلام، هاجم الإعلاميين، وصادَق القلة القليلة، والأهمّ عرف كيف يمرّر حروبه وهجومه ورأيه وعصبيته، ونرفزاته في كلّ حواراته المتلفزة أو الإذاعية والمكتوبة.
وعرف ملحم كيف يكون صديقاً مع أبناء جيله والأجيال الجديدة، ومتى يطنّشهم، ويهاجمهم وينتقدهم، ويصنع الحروب معهم، والغريب أن الجميع يتقبلون هجومات أبي مجد بسيوف البسمة، مع عتب بقدر المحبة. إذا أحببت ملحم بركات عليك أن تحبّه كما هو لا كما أنت تريد أن يكون كي تحبّه، هو طيب القلب رغم لسانه الناري، مغرور إلى حدّ البوح من دون أن تنزعج من غروره، لكنك تُصدَم بطريقة تعبيره. عصبيّ المزاج مع النساء كما الأصدقاء، وقد يقع الشجار، ولكنه ورغم فورته السريعة يهدأ في أقل من دقائق، يبتسم، يعزمك ولا يأتي، ولا يردّ على هاتفه، والمزاجية تفرض نسيان ما اتفقت معه من جرّاء رحلة صيد حضرت خلسة.
إذا أحبك يسامحك على أفعالك كلّها، ولكنه لا يطنش، ويصرّ أن يقول رأيه ثمّ يعاود فتح النافذة. وإذا أغضبطه سريع العطب، ويصالحك مع صمت تليه براكين من جنون تصرّفاته وأقواله المهضومة، وأيضاً رغم قساوتها لا أحد يزعل منه.
في الموسيقى تصالح مع ملحم بركات، وكان امتداداً لفريد الأطرش وفيلمون وهبي، وكان ينزعج منّي كلما قلت له هذا الرأي، وحينما يهدأ يعترف بحبّه لهما، وبتأثّره بما قدّماه، وهذا لا يعيبه، بل يزيده شأناً وحضوراً، خاصة أنه تمكن من أن يفرض موهبته. وعبر عشقه نغمة «العجم» استطاع أن يتربع على عرشه كملك لا يجاريه أحد من الزملاء وممّن جاء من بعده. هو لم يقلّد بل قُلِّد، وهو لم يعرض ألحانه بل طُلِب منه اللحن. وهو لم يزوّر بأنغامه بل كان هو نغم لحنه، وهو شبيه ما عزفه ورقص على وتره، هو الوتر، وهو النغم، وهو بحر ألحانه.
هذا ما جعل ملحم يختلف عمّن كان يلحّن ويغنّي من أبناء جيله، عرف ما يناسبه، واحترم جمهوره، لذلك كان يخاف من تقديم جديده، ويحتاج إلى تشجيع من رفاقه العازفين معه، وكلمة طيبة واحدة تقال له همساً ليسارع في مغامرة تحسب له ويغنّي جديده على المسرح، و ما إن يشعر بأن الجمهور تقبّل لحنه الجديد يأخذ بالطرب والارتجال. أقصد كلما انسجم الجمهور مع أغنيته يلوّن ملحم بتأدية أغنيته، ويحلّق بالطرب والإعادة حتى لو بكلمة أو نغمة ارتجلها، وقد تكون ابنة اللحظة.
في الغناء ملحم هو ملحم، لم يتصنّع الموقف أو اللحظة، ولم يجامل على حساب ما سيغنّي، فتجده يؤدّي الغناء الوطني كما يؤدّي الغناء الشعبي والعاطفي، وفي أواخر أيامه غنّى الوجدانيات بطريقة لافتة، لكنه لم يخن ملحم ولونه، هو جمع في الغناء اللون والنوع، لذلك تقبّله الجمهور في وقت هجر هذا الجمهور الطرب والجملة الموسيقية، لكنه تقبّلها من ملحم، ورفضها من غيره.
ولن نجامل، وهذا ليس ملعبنا، لكنّنا نعترف بكلّ جرأة بأن جمهور ملحم بركات الأساس كان في لبنان وسورية والأردن، ولكن السمّيعة وأهل الاختصاص والمعنيين وكل المطربين في العالم العربي يتابعون ما يقدّمه ملحم، ويحسبون له حساب التجربة، وكل جديده يتناولونه بأهمية.
يعيش ملحم في أغنيته الوطنية، كما العاطفية والشعبية، ولا نستطيع أن نقول إنه متفوّق في نوع من الغناء على حساب النوع الآخر كما حال بعض زملائه، هو متفوّق في المجالين، هنا يلعب بما يشعر به، وبما يرغب أن يصرح به، وهناك يبوح بما يحس به، وبما يدغدغ مشاعره، ويتوافق مع حالته وعاطفته، يرقص، يخاطب الجمهور حتى لو بلغ الآلاف، يجادل أفراد فرقته الموسيقية، يغمز من هذا وذاك بسرعة البرق والناس فرحون، ويمرّر رسائله وحركشاته ونكاته السياسية والاجتماعية بجرأة مصحوبة بقفشة غنائية يليها غناء ولا أجمل.
هو مقتدر في غناء ما لا يقدر على غنائه غيره، هو يلوّن بذكاء حتى لو كانت الحنجرة متعبة…وهو، وهذا الأهم، يغني بكلّ تناقضاته وفصوله.
في التمثيل حاول ملحم أن يكون هو، لم يتفذلك، ولم ينظّر، ولم يتعمّد، كان واضحاً رشيقاً خفيفاً يؤدّي دوره كما يعيش في الحياة، ولم يتجاهل في كل ما أدّاه تمثيلياً أنه مطرب ونقطة على السطر، وهذا قرّبه من المشاهد، وفرض عدم انتقاده، وكلّه صبّ في سير ملحم.
ملحم بركات كاريزما في الإطلالة، كاركتر في الغناء، شخصية مختلفة في الحياة، حالة فنية لا تشبه أحداً، لغة موسيقية تلامس أحاسيس الناس لا نجدها عند غيره، وشهادة شاملة نتابعها، وننشغل بها، ونهتم لها، ونوافقها رغم اختلافنا معها أحياناً كثيرة، وفي رحيل صانعها خسرنا جدلية الموقف الصارخ، والأغنية التي تلامسنا، واللسان السليط، واللحن الذي يسحرنا ويحرّك مشاعرنا، والصوت حيث صورنا وطربنا ولساننا ورفيقنا، والذي يشبهنا.
ملحم بركات لن نسمح بالبوح بأسرار كانت تزعجك، وتخيّم على تعبك، ولن نقبل بخيانة من زيّن أيامنا بفرح السنوات المتعبة، فأنت في مشوارنا واحة، وفي دفاتر الأجيال المقبلة الكتاب الغنيّ، وفي النغم المعاصر الحضور الثاقب، ولكل من سيغنّي قبلته ومسرحه وأنشودته… ملحم بركات لك في ذاكرتنا مساحة من ذهب.
Leave a Reply