يشقّ الإعلاميُّ جورج معلولي عباب القضايا المعاصرة، مجابهًا قضيّة الذات والآخر، في عملهِ القصصيّ “بنت الأصول”، كاشفًا عن مكنون مجتمعٍ أغرقتْهُ التناقضاتُ القائمة بين التحرّر من جهةٍ والتحجُّرِ من جهة أخرى. ففي جرأةٍ “حذرة” يطرقُ موضوعًا بالغَ الحساسيّة من منطلقِ وعيه الدّينيّ الملتزم بتعاليم الكنيسة، ومن بيئته اللبنانيّة الضيّقة الحدود، ومن موروثاتِ مجتمعٍه التقليديّ الطابع، واقفًا عند قناعتِهِ المتشرّبةِ من حسّه الإنسانيّ فكرًا وشخصًا وممارسةً.
وهكذا يعيشُ جورج هاجسَ التساؤلات: هل الوجودُ وهمٌ؟ وهل قيمةُ الإنسان تكمُن في أوراقٍ ثبوتيّةٍ تربطه بسلالتِه؟ وأينَ القدرُ من مصير الإنسانِ في مجتمعٍ لا يرحم؟
يمخرُ عميقًا في طرحه قصّة واقعيّة بطلتها ولدَتْ من رحم المعاناة، مكتومة القيْد، بائسة المصير، قدرها أن تبحثَ عن وجودٍ يدثّرها بوجهٍ اجتماعيٍّ، فينتقل معها من وجودِها الميتافيزيقيّ، ليبرزَ حقّها في الحياة، وليمتّعها بالمساواة مع سائر أفراد المجتمع، رغمًا عن إرادةِ كلّ متّهمٍ يعيّرها بنقصٍ على خانةِ سجلات النفوس. وقد وسّع حلقةَ المجابهة ليبرز معاناتها مع الأقاربِ والجيران ورفاق مقاعد الدراسة، على اعتبار خوضها أوّل تجربة اجتماعيّة يعرفها الطفل، ويبغي من خلالها أن يتساوى مع جميع الخلائق. إلا أنّ المؤلّف صنعَ من مسألةِ التبنّي سيفًا ذو حدّين، فهو إذ ينتشل المجنيّ عليه من عالم التهميش والإهمال، يبقى كالقنبلة الموقوتة تنفجرُ في الوقتِ الأكثر حساسيةً، لتبترَ أحلامًا تغدو كذنوبٍ مبرّحة، وكأنّ الأملَ سفكٌ خجولٌ من ضميرٍ معزولٍ، ولكأنَّ الإنسانيّةَ تذبحُ فوقَ أعوادِ الاتّهام.
من الجليّ أنّ معلولي، قد قيّد قلمَه بالتزامه الإيمانيّ، وبانتمائه اللّبنانيّ، فصوّب كلّ اهتمامه على حقبةٍ زمنيّة حسّاسة، قد اتّخذت طابع النّسق الواحد جغرافيًّا وتاريخيًا. وعلاوةً على ذلك قد عمَدَ على تدقيق أحداثِ مجتمعه أكثر محاولاً القبضَ على المنسيّ والمكبوت في ذوات قرّائه. فقارئ “بنت الأصول” يكشفُ من خلال بساطة التعبير وسلاسته في آن، مدى قدرة الكاتب على تشريحِ التفاصيل، إذ يصبّ اهتمامه على الواقع الثلاثيّ الأبعاد: سياسيًّا، واجتماعيًّا ودينيًّا.وبهذا المعنى يدخل مختبر التحليل النفسي، جاهدًا قلمه بتخليص الذات من كلّ الرّواسب الثقافيّة والتاريخيّة، محوّلاً من نتاجه هذا سرديّةً إيديولوجيًّةً، تنقل واقعًا وطنيًا منكوبًا سياسيًا واجتماعيًا، ولكأنّ تأثّره بمعاناة الحياة اليومية التي يتشاطرها مع كلّ اللبنانيّين، ولاسيّما في الأزمة الأخيرة التي سلبتْ المواطن جنى عمرهُ، فتساوى الغنيّ مع الفقيرِ في همّ الاستمرار، وبات الهمّ يتقاطعُ بين مهاجرٍ ومُقيم، وكأنّ المواطنُ يجهدُ ليقبضَ على الوطنِ الهاربِ، والإنسانيّة الضائعة والحقّ السّليب… والجديرُ بالذّكر، أنّ معلولي في تجربته القصصيّة الأولى، قد قدّم نصّه على شكل تقرير مفصّل، تهدفُ حواراته في حيثياتها إلى تسليط الضوء على الأحداث المهمّة الّتي مرّ بها بلبنان منذ سبعينيات القرن الماضي، محاولاً ترميم الدّمار القائم بين القمعيّة السياسيّة المسترسِلة، منذ ذلك الحين، في تقديم صنوفٍ من العنفِ المرئيّ منه والخفيّ. ولن يخفى على القارئ إطلاقًا أنّ تجربة المعلولي هي الأولى له في عالم القصّة لأنّه قد تفلّت كثيرًا من مبادئ أساسيّة في الكتابة الروائيّة، وجنح قليلاً عن بنيتها القصصية المحكمة، فنجدهُ في فصول عمله يقفز قلمه بين الزّمن الاسترجاعيّ والزّمن الاستباقيّ، معوّلاً على أحداثٍ معروفة في ذاكرة القرّاء، وهموم استراتيجيّة قد عانى من هولِها الكثيرون، فقد ضربَ تارةً على وتر الحرب الأهليّة، وتارةً أخرى على مواجع الذّات، مستنطقًا بطلته الأسباب التي دفعتها إلى الزواج قاصرًا، من رجلٍ طاعن في السنّ على سبيل ” التعويض” عن نقصٍ، تسدّ فيه ثغرةَ ماضيها الّذي لم تكنْ مسؤولةً عن أسبابه من الأصل، ويكون يذلك قد طرح إشكاليّة مصير المرأة داخل وجودها.
إنّ أهمَّ ما يخلص إليه القارئ هو أنّ، الكاتب قد تأثَر شديدًا بأواصر العائلة اللبنانية التقليدية، بجذورها وفروعها، وآمن بالأسرة المتعاضدة كأداةٍ لمجابهة الانحلال والتفكُّك المجتمعيّ، الذي قد بات أداة الجريمة الخفيّة لكلّ عيبٍ يضرب صميم مجتمعنا المتقهقر يومًا بعد يوم. كما آمن بإحقاق إنسانية الإنسان، وسعى إلى حماية الطّفولة من موبئات الجرائم التي يقترفها الأهل، على مبدأ: “الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون”. وهو إذ ضمّن نصّه موادّ قانون الأحوال الشخصيّة، واضعًا تحت المجهر عيوب المجتمع الذي ما رحمَ ضعيفًا، ولا أصاب مذنبًا، قد عمدَ إلى إطلاقِ صرخةٍ يتردّدُ صداها في ضمير كلّ ظالمٍ يرمي بعيوبهِ على كاهلِ المستضعف. فجعل من “ناديا” التي قضت عمرها تبحثُ عن وجودِها وتدور في حلقةٍ مفرغةٍ في صراعِ أمّ (ولدَت) لتخلٍّ عقيم، وأمٍّ ( احتضنت) في خصب حنانٍ مستديم، وجعل من مجابهتها نميمة المجتمع وهمسات اتّهامه، صورةَ المرأة القويّة، والمتعمّقة بأصول التّربية والعرفان، باسطًا من خلالها حسنات ومساوئ التبنّي، تاركًا النهاية مفتوحةً على استشرافِ واقعٍ يصيبُ الأجيال، ففي كلّ جيلٍ ستولدُ “ناديا” جديدة.
Leave a Reply